الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ ٱلأَعْرَابِ مُنَٰفِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ }

{ وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ } يعني: حول بلدتكم، وهي المدينة { مِّنَ ٱلأَعْرَابِ مُنَٰفِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ } أي: مرنوا ومهروا فيه. وقوله عز شأنه: { لاَ تَعْلَمُهُمْ } دليل لمرانتهم عليه، ومهارتهم فيه، أي: يخفون عليك، مع علوّ كعبك في الفطنة وصدق الفراسة، لفرط تأنقهم وتصنعهم في مراعاة التقية، والتحامي عن مواقع التهم.

قال في (الانتصاف): وكأن قوله تعالى: { مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ } توطئة لتقرير خفاء حالهم عنه صلى الله عليه وسلم، لما لهم من الخبرة في النفاق والضراوة به. انتهى.

وقوله تعالى: { نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } تقرير لما سبق من مهارتهم في النفاق، أي: لا يعلمهم إلا الله، ولا يطلع على سرهم غيره، لما هم عليه من شدة الاهتمام بإبطان الكفر، وإظهار الإخلاص.

وقوله تعالى: { سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ } للمفسرين في المرتين وجوه: إظهار نفاقهم وإحراق مسجد الضرار أو الفضيحة وعذاب القبر، أو أخذ الزكاة، لما أنهم يعدّونها مغرماً بحتاً، ونهك الأبدان، وإتعابها بالطاعات الفارغة عن الثواب.

وقال محمد بن إسحاق: هو - فيما بلغني عنهم - ما هم فيه من أمر الإسلام، وما يدخل عليهم من غيظ ذلك على غير حسبة، ثم عذابهم في القبور إذا صاروا إليها، ثم العذاب العظيم الذي يُرَدُّون إليه، عذاب الآخرة، ويخلدون فيه.

قال أبو السعود: ولعل تكرير عذابهم، لما فيهم من الكفر المشفوع بالنفاق، أو النفاق المؤكد بالتمرد فيه. ويجوز أن يكون المراد بالمرتين مجرد التكثير، كما في قوله تعالى:ثُمَّ ٱرجِعِ ٱلبَصَرَ كَرَّتَيْنِ } [الملك: 4] أي: كرة بعد أخرى، لقوله تعالى:أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ... } [التوبة: 126].

تنبيه

لا ينافي قولُه تعالى: { لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } قوله تعالى:وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ ٱلْقَوْلِ } [محمد: 30]؛ لأن هذا من باب التوسم فيهم بصفات يُعْرَفون بها، لا أنه يعرف جميع من عنده من أهل النفاق والريب، على التعيين، وقد كان يعلم أن في بعض من يخالطه من أهل المدينة نفاقاً، وإن كان يراه صباحاً ومساءً، وشاهد هذا بالصحة، ما رواه الإمام أحمد عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، إنهم يزعمون أنه ليس لنا أجر بمكة، فقال: " لتأتينكم أجوركم، ولو كنتم في جحر ثعلب " وأصغى إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم برأسه فقال: " إن في أصحابي منافقين " ، أي: يرجفون ويتكلمون بما لا صحة له.

وروى ابن عساكر عن أبي الدرداء " أن رجلاً يقال له: حرملة أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: الإيمان هاهنا، وأشار بيده إلى لسانه، والنفاق هاهنا، وأشار بيده إلى قلبه، ولم يذكر الله إلا قليلاً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم! اجعل له لسانا ذاكراً، وقلباً شاكراً، ارزقه حبي وحب من يحبني، وصيّرْ أمره إلى خير ". فقال: يا رسول الله، إنه كان لي أصحاب من المنافقين، وكنت رأساً فيهم، أفلا آتيك بهم؟ قال: " من أتانا استغفرنا له، ومن أصرّ على دينه، فالله أولى به، ولا تخرقنّ على أحد سترا "

السابقالتالي
2