الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ فَلْيَنظُرِ ٱلإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ } * { خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ } * { يَخْرُجُ مِن بَيْنِ ٱلصُّلْبِ وَٱلتَّرَآئِبِ } * { إِنَّهُ عَلَىٰ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ } * { يَوْمَ تُبْلَىٰ ٱلسَّرَآئِرُ } * { فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ }

{ فَلْيَنظُرِ ٱلإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ } جواب لمقدر. والفاء فصيحة. أي: إن ارتاب مرتاب في كل نفس من الأنفس عليها رقيب، فلينظر... إلخ.

قال الإمام: قوله: { فَلْيَنظُرِ ٱلإِنسَانُ } بمنزلة الدليل على الدعوى المقسَم عليها، زيادة في التأكيد. ووجه ذلك أن الماء الدافق من المائع الذي لا تصوير فيه ولا تقدير للآلات التي يظهر فيها عمل الحياة كالأعضاء ونحوها. ثم إن هذا السائل ينشأ خلقاً كاملاً كالإنسان، مملوءاً بالحياة والعقل والإدراك، قادراً على القيام بخلافته في الأرض. فهذا التصوير والتقدير وإنشاء الأعضاء والآلات البدنية، وإيداع كل عضو من القوة ما به يتمكن من تأدية عمله في البدن، ثم منح قوة الإدراك والعقل، كل هذا لا يمكن أن يكون بدون حافظ يراقب ذلك كله ويدبره، وهو الله جل شأنه. ويجوز أن يكون قوله: { فَلْيَنظُرِ ٱلإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ } من قبيل التفريع على ما ثبت في القضية الأولى. كأنه يقول: فإذا عرفت أن كل نفس عليها رقيب، فمن الواجب على الإنسان أن لا يهمل نفسه، وأن يتفكر في خلقه. وكيف كان ابتداء نشئه ليصل بذلك إلى أن الذي أنشأه أول مرة، قادر على أن يعيده. فيأخذ نفسه بصالح الأعمال والأخلاق. ويعدل بها عن سبل الشر. فإن عين الرقيب لا تغفل عنها في حال من الأحوال. انتهى.

و { دَافِقٍ } من الدفق. وهو صبٌّ فيه دفع. وقد قيل: إنه بمعنى مدفوق، وإن اسم الفاعل بمعنى المفعول. كما أن المفعول يكون بمعنى الفاعل كـحِجَاباً مَّسْتُوراً } [الإسراء: 45].

والصحيح أنه بمعنى النسبة كـ (لابن وتامر) أي ذي دفق، وهو صادق على الفاعل والمفعول. أو هو مجاز في الإسناد. فأسند إلى الماء ما لصاحبه مبالغة. أو هو استعارة مكنية أو مصرحة بجعله دافقاً؛ لأنه لتتابع قطراته كأنه يدفق بعضه بعضاً أي: يدفعه. أو دافق بمعنى منصب من غير تأويل، كما نقل عن الليث. أقوال.

وقوله تعالى: { يَخْرُجُ مِن بَيْنِ ٱلصُّلْبِ وَٱلتَّرَآئِبِ } أي: من بين صلب الرجل ونحر المرأة.

قال الإمام: الصلب هو كل عظم من الظهر فيه فقار. ويعبر عنه في كلام العامة بسلسلة الظهر. وقد يطلق بمعنى الظهر نفسه إطلاقاً لاسم الجزء على الكل وَ { ٱلتَّرَآئِبِ } موضع القلادة من الصدر، وكني بالصلب عن الرجل وبالترائب عن المرأة. أي أن ذلك الماء الدافق إنما يكون مادة لخلق الإنسان، إذا خرج من بين الرجل والمرأة ووقع في المحل الذي جرت عادة الله أن يخلقه فيه، وهو رحم المرأة. فقوله { يَخْرُجُ } إلخ وصف لابد من ذكره لبيان أن الإنسان إنما خلق من الماء الدافق المستوفي شرائط صحة الخلق منه.

وقال بعض علماء الطب: الترائب جمع تربية: وهي عظام الصدر في الذكر والأنثى.

السابقالتالي
2