الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَٰنُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلْكَرِيمِ } * { ٱلَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ } * { فِيۤ أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ }

{ يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَٰنُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلْكَرِيمِ } أي: أيّ شيء خدعك وجرأك على عصيانه والانحراف عن فطرته. وذكر { ٱلْكَرِيمِ } للمبالغة في المنع عن الاغترار؛ لأنه بمعنى العظيم الجليل الكامل في نعوته. ومن كان كذلك فجدير بأن يرهب عقابه ويخشى انتقامه وعذابه. لا سيما وله من النعم العظيمة والقدرة الكاملة ما يزيد في الرهبة، كما قال: { ٱلَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ } أي: جعلك سويّاً متساوي الأعضاء والقوى. وأصل التسوية جعل الأشياء على سواء. فتكون على وفق الحكمة ومقتضاها، بإعطائها ما تتم به { فَعَدَلَكَ } أي: جعلك معتدلاً متناسب الخلق، معتدل القامة. لا كالبهائم. وقرئ بالتخفيف وهو بمعنى المشدد، أو بمعنى صرفك عن خلقة غيرك إلى خلقة حسنة، مزتَ بها على سائر الحيوان { فِيۤ أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ } أي: في أيّ صورة شاءها ركبك عليها. يعني: أنه ركبك في صورة هي أبدع الصور وأعجبها. فـ { أَيِّ }: استفهامية. والمجرور متعلق بـ { رَكَّبَكَ } و { مَّا } زائدة، وجملة { شَآءَ } صفة { صُورَةٍ }. والقصد: أن من خلق هذا الخلق البديع وسواه وعدله بقدرته وتقديره، حتى أحكم صورته في ذلك التركيب، لَجَديرٌ بأن يُتّقَى بأسه ويُحذر بطشه ويُرهب أشد ترهيب.

تنبيه

قال الإمام ابن القيم في (الجواب الكافي): في بحث كون القرآن من أوله إلى آخره صريحا في ترتيب الجزاء بالخير والشر، والأحكام الكونية على الأسباب، ما تتمته: فليحذر مغالطة نفسه على هذه الأسباب - وهذا من أهم الأمور - فإن العبد يعرف أن المعصية والغفلة من الأسباب المضرة له في دنياه وآخرته، ولا بد. ولكن تغالطه نفسه.

ثم ذكر من أنواع المغترين من يغتر بفهمٍ فاسدٍ، فَهِمَهُ هو وأضرابه من نصوص القرآن والسُّنَّة فاتكلوا عليه. قال: كاغترار بعض الجهال بقوله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَٰنُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلْكَرِيمِ } فيقول: كرمه. وقد يقول بعضهم إنه لقن المغتر حجته. وهذا جهل قبيح. وإنما غره بربه الغَرور، وهو الشيطان، ونفسه الأمَّارة بالسوء، وجهله وهواه. وأتى سبحانه بلفظ { ٱلْكَرِيمِ } ، وهو السيد العظيم المطاع الذي لا ينبغي الاغترار به ولا إهمال حقه. فوضع هذا المغتر (الغرور) في غير موضعه، واغتر بمن لا ينبغي الاغترار به. انتهى.

وفي مثل هذا الغرور يجب - كما قال الغزاليّ - على العبد أن يستعمل الخوف. فيخوّف نفسه بغضب الله وعظيم عقابه، ويقول: إنه مع أنه غافر الذنب وقابل التوب، شديد العقاب. وإنه مع أنه كريم، خلد الكفار في النار أبد الآباد. مع أنه لم يضره كفرهم. بل سلط العذاب والمحن والأمراض والعلل والفقر والجوع على جملة من عباده في الدنيا. وهو قادر على إزالتها. فَمَنْ هذه سنته في عباده، وقد خوّفني عقابه، فكيف لا أخافه؟ وكيف أغتر به؟ فالخوف والرجاء قائدان وسائقان يبعثان الناس على العمل.

السابقالتالي
2