الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ } * { فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ } * { فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ } * { مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ } * { بِأَيْدِي سَفَرَةٍ } * { كِرَامٍ بَرَرَةٍ } * { قُتِلَ ٱلإِنسَانُ مَآ أَكْفَرَهُ }

قوله سبحانه: { كَلاَّ } ردع عن المعاتَب عليه وعن معاودة مثله. قال أنس رضي الله عنه: " كان النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يكرمه " رواه أبو يعلى. وقوله تعالى: { إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ } أي: إن المعاتبة المذكورة موعظة يجب الاتعاظ بها والعمل بموجبها.

قال الشهاب: وكون عتابه على ما ذكر عظة؛ لأنه مع عظمة شأنه ومنزلته عند الله إذا عوتب على مثله. فما بالك بغيره؟ وجوز عود الضمير للآيات وللسورة، وللوصية بالمساواة بين الناس، ولدعوة الإسلام. وقوله تعالى: { فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ } أي: حفظه. على أنه من (الذكر) خلاف النسيان: أو اتعظ به، من (التذكير).

قال الزمخشري: وذكر الضمير لأن التذكرة في معنى الذكر والوعظ. وقيل: الضمير للقرآن، والكلام استطراد { فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ } يعني: صحف آيات التنزيل وسورة { مَّرْفُوعَةٍ } أي: عالية المقدار { مُّطَهَّرَةٍ } من التغيير والنقص والضلالة { بِأَيْدِي سَفَرَةٍ } جمع سافر بمعنى سفير. أو هو الذي يسعى بين قومه بالصلح والسلام. يقال: سفر بين القوم إذا أصلح بينهم. ومنه قوله.
وما أدعُ السفارةَ بين قومي   وما أَمْشِي بِغِشٍ، إن مَشَيْتُ
والسفرة، إما الملائكة لأنهم يسفرون بالوحي بين الله تعالى ورسله، كأنه محمول بأيديهم. وإما الأنبياء لأنهم وسائط في الوحي يبلغونه للناس { كِرَامٍ } أي: عنده تعالى، لاصطفائهم للرسالة { بَرَرَةٍ } أي: أخيار، جمع (بارّ) وهو صانع البر والخير.

{ قُتِلَ ٱلإِنسَانُ مَآ أَكْفَرَهُ } قال الرازي: اعلم أنه تعالى لما بدأ بذكر القصة المشتملة على ترفع صناديد قريش على فقراء المسلمين، عجب عباده المؤمنين من ذلك. فكأنه قيل: وأي سبب في هذا العجب والترفع؟ مع أن أوله نطفه قذرة وآخره جيفة مذرة. وفيما بين الوقتين حمال عذرة. فلا جرم، ذكر تعالى ما يصلح أن يكون علاجاً لعجبهم، وما يصلح أن يكون علاجاً لكفرهم. فإن خلقة الإنسان تصلح لأن يستدل بها على وجود الصانع وعلى القول بالبعث والحشر والنشر. ومرجعه إلى أن المراد بالإنسان من استغنى عن القرآن الكريم الذي ذكرت نعوته الجليلة الموجبة للإقبال عليه والإيمان به. وجوز أن يراد بالإنسان الجنس المنتظم للمستغني، ولأمثاله من أفراده، لا باعتبار جميع أفراده.

لطائف

الأولى: قال الزمخشري: { قُتِلَ ٱلإِنسَانُ } دعاء عليه وهي من أشنع دعواتهم؛ لأن القتل قصارى شدائد الدنيا وفظائعها.

الثانية: قال ابن جرير: في قوله: { مَآ أَكْفَرَهُ } وجهان: أحدهما: التعجب من كفره مع إحسان الله إليه وأياديه عنده. والآخر: ما الذي أكفره؛ أي: أيٌّ شيء أكفره. وعلى الثانية، فالهمزة للتصيير كـ (أَغَدَّ البعيرُ).

الثالثة: قال الزمخشري في هذه الآية: ولا ترى أسلوباً أغلظ منه ولا أخشن متناً ولا أدل على سخطٍ ولا أبعد شوطاً في المذمة، مع تقارب طرفيه ولا أجمع لِلأئمةٍ، على قصر متنه. وسره ما أشار له الرازي من أن قوله: { قُتِلَ ٱلإِنسَانُ } تنبيه على أنهم استحقوا أعظم أنواع العقاب. وقوله: { مَآ أَكْفَرَهُ } تنبيه على أنهم اتصفوا بأعظم أنواع القبائح والمنكرات.

الرابعة: أفاد في (الكشف): أن الدعاء ليس على حقيقته، لامتناعه منه تعالى. لأن منشأه العجز. فالمراد به إظهار السخط باعتبار جزئه الأول، وشدة الذم باعتبار جزئه الثاني، أي لاستحالة التعجب بمعناه المعروف أيضاً.