الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ حَسْبُكَ ٱللَّهُ وَمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ }

{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ حَسْبُكَ ٱللَّهُ وَمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } قال العلامة ابن القيّم في مقدمة (زاد المعاد) في تفسير هذه الآية: أي: الله وحده كافيك، وكافي أتباعك، فلا يحتاجون معه إلى أحد. ثم قال: وهاهنا تقديران:

أحدهما: أن تكون الواو عاطفة لـ { مَنِ } على الكاف المجرورة، ويجوز العطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار، على المذهب المختار، وشواهد كثيرة، وشُبَه المنع منه واهية.

والثاني: أن تكون الواو واوَ (مع)، وتكون { مَنِ } في محل نصب عطفاً على الموضع فإن { حَسْبُكَ } في معنى كافيك، أي: الله يكفيك، ويكفي من اتبعك، كما يقول العرب: حسبك وزيداً درهم، قال الشاعر:
إذا كانت الهيجاء وانشقَّتِ العصا   فحسبُك والضحاك سيفٌ مُهَنَّدُ
وهذا أصح التقديرين. وفيها تقدير ثالث، أن تكون { مَنِ } في موضع رفع بالإبتداء، أي: ومن اتبعك من المؤمنين، فحسبهم الله؛ وفيها تقدير رابع، وهو خطأ من جهة المعنى، وهو أن يكون { مَنِ } في موضع رفع عطفاً على إسم الله، ويكون المعنى: حسبك الله وأتباعك. وهذا، وإن قال به بعض الناس، فهو خطأ محض، ولا يجوز حمل الآية عليه، فإن الحسب والكفاية لله وحده، كالتوكل والتقوى والعبادة. قال الله تعالى:وَإِن يُرِيدُوۤاْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ ٱللَّهُ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِٱلْمُؤْمِنِينَ } [الأنفال: 62] ففرق بين الحسب والتأييد، فجعل الحسب له وحده، وجعل التأييد له بنصره وبعباده. وأثنى الله سبحانه على أهل التوحيد والتوكل من عباده، حيث أفردوه بالحسب، فقال تعالى:ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَٱخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا ٱللَّهُ وَنِعْمَ ٱلْوَكِيلُ } [آل عمران: 173] ولم يقولوا: حسبنا الله ورسوله. فإذا كان هذا قولهم، ومدح الرب تعالى لهم بذلك، فكيف يقول لرسوله: الله وأتباعك حسبك؟ وأتباعه، قد أفردوا الرب تعالى بالحسب، ولم يشركوا بينه وبين رسوله فيه، فكيف يشرك بينهم وبينه في حسب رسوله؟ هذا من أمحل المحال، وأبطل الباطل. ونظير هذا قوله:وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا ٱللَّهُ سَيُؤْتِينَا ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّآ إِلَى ٱللَّهِ رَاغِبُونَ } [التوبة: 59]، فتأمل كيف جعل الإيتاء لله ولرسوله، كما قال تعالى:وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ } [الحشر: 7]، وجعل الحسب له وحده، فلم يقل: وقالوا حسبنا الله ورسوله، بل جعله خالص حقه، كما قال:إِنَّآ إِلَى ٱللَّهِ رَاغِبُونَ } [التوبة: 59] ولم يقل وإلى رسوله، بل جعل الرغبة إليه وحده. كما قال تعالى:فَإِذَا فَرَغْتَ فَٱنصَبْ * وَإِلَىٰ رَبِّكَ فَٱرْغَبْ } [الشرح: 7-8]، فالرغبة والتوكل والإنابة والحسب، لله وحده. كما أن العبادة والتقوى والسجود، لله وحده. والنذر والحلف لا يكون إلا له سبحانه وتعالى ونظير هذا قوله تعالى:أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } [الزمر: 36] فـ (الحسب) هو (الكافي)، فأخبر سبحانه وتعالى أنه وحده كافٍ عبده، فكيف يجعل أتباعه مع الله في هذه الكفاية؟ والأدلة الدالة على بطلان هذا التأويل الفاسد، أكثر من أن تذكر هاهنا. انتهى.

قال الخفاجيّ (في العناية): وتضعيفه الرفع لا وجه له، فإن الفراء والكسائي رجّحاه، وما قبله وما بعده يؤيده. انتهى.

وأقول: هذا من الخفاجيّ من الولع بالمناقشة، كما هو دأبه، ولو أمعن النظر فيما برهن عليه ابن القيم وأيده بما لا يبقى معه وقفة، لما ضعفه والفراء والكسائيّ من علماء العربية، ولأئمة التأويل فقه آخر. فتبصر، ولا تكن أسير التقليد.