الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ إِذْ أَنتُمْ بِالْعُدْوَةِ ٱلدُّنْيَا وَهُم بِٱلْعُدْوَةِ ٱلْقُصْوَىٰ وَٱلرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي ٱلْمِيعَادِ وَلَـٰكِن لِّيَقْضِيَ ٱللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ }

{ إِذْ أَنتُمْ } بدل منيَوْمَ ٱلْفُرْقَانِ } [الأنفال: 41]، أو ظرف لمحذوف، أي: اذكروا إذ أنتم يا معشر المؤمنين { بِالْعُدْوَةِ ٱلدُّنْيَا } يعني: بشفير الوادي الأدنى من المدينة، { وَهُم } يعني المشركين، أبا جهل وأصحابه { بِٱلْعُدْوَةِ ٱلْقُصْوَىٰ } أي: البُعْدَى عن المدينة، مما يلي مكة { وَٱلرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ } أي: العير التي فيها أبو سفيان، بما معه من التجارة التي كان الخروج لأجلها، أسفل من موضع المؤمنين إلى ساحل البحر على ثلاثة أميال من (بدر).

لطيفة

قال الزمخشريّ: فإن قلت: ما فائدة هذا التوقيت، وذكر مراكز الفريقين، وأن العير كانت أسفل منهم؟ قلت: الفائدة فيه الإخبار عن الحال الدالة على قوة شأن العدوّ وشوكته، وتكامل عدته، وتمهّد أسباب الغلبة له، وضعف شأن المسلمين، والتياث أمرهم، وأن غلبتهم في مثل هذه الحال، ليست إلا صنعاً من الله سبحانه، ودليلاً على أن ذلك أمر لم يتيسر إلا بحوله وقوته، وباهر قدرته، وذلك أن العدوة القصوى التي أناخ بها المشركون، كان فيها الماء، كانت أرضاً لا بأس بها. ولا ماء بالعدوة الدنيا، وهي خَبَارٌ (ما لان من الأرض واسترخى) تسوخ فيه الأرجل، ولا يمشي فيها إلا بتعب ومشقة. وكانت العير وراء ظهور العدوّ، مع كثرة عددهم، فكانت الحماية دونها تضاعف حميّتهم، وتشحذ في المقاتلة عنها نياتهم؛ ولهذا كانت العرب تخرج إلى الحرب بظعنهم وأموالهم، ليبعثهم الذبّ عن الحريم، والغيرة على الحرب، على بذل جُهَيْدَاهم في القتال، وألا يتركوا وراءهم ما يحدّثون أنفسهم بالإنحياز إليه فيجمع ذلك قلوبهم، ويضبط هممهم، ويوطن نفوسهم، على ألا يبرحوا موطنهم، ولا يُخْلُوا مراكزهم، ويبذلوا منتهى نجدتهم، وقصارى شدتهم، وفيه تصوير ما دبّر سبحانه من أمر وقعة بدر، ليقضي أمراً كان مفعولاً، من إعزاز دينه، وإعلاء كلمته، حين وعد المسلمين إحدى الطائفتين، مبهمة غير مبينّة، حتى خرجوا ليأخذوا العير، راغبين في الخروج، وشخص بقريش مرعوبين مما بلغهم من تعرّض رسول الله صلى الله عليه وسلم لأموالهم، حتى نفروا ليمنعوا عيرهم، وسبب الأسباب، حتى أناخ هؤلاء بالعدوة الدنيا، وهؤلاء بالعدوة القصوى، ووراءهم العير يحامون عليها، حتى قامت الحرب على ساق، وكان ما كان، انتهى.

قال الناصر في (الإنتصاف): وهذا الفصل من خواص حسنات الزمخشري، وتنقيبه عن أسرار الكتاب العزيز.

وقوله تعالى: { وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي ٱلْمِيعَادِ } أي: ولو تواعدتم أنتم وأهل مكة على موعد تلتقون فيه للقتال، لخالف بعضكم بعضاً، فثبطكم قلتكم وكثرتهم، على الوفاء بالموعد، وثبطهم ما في قلوبهم من تهيّب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فلم يتفق لكم من التلاقي ما وفقه الله وسبب له. قاله الزمخشريّ.

وفي حديث كعب بن مالك قال: إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يريدون عير قريش، حتى جمع الله بينهم وبين عدوّهم على غير ميعاد.

السابقالتالي
2