الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ }

{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ } نزلت فيمن ينفق على حرب النبيّ صلى الله عليه وسلم من المشركين، وبيان سوء مغبة هذا الإنفاق، وقد ذهب الضحاك إلى أنه عنى بها المطعمون منهم يوم بدر، وكانوا اثني عشر رجلاً من قريش، يطعم كل واحد منهم، كل يوم، عشر جزر.

وروي عن مجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وغيرهم أنها نزلت في أبي سفيان، ونفقته الأموال في (أُحُد) لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

روى محمد بن إسحاق عن الزهريّ أنه لما أصيب قريش يوم بدر، ورجع فلّهم إلى مكة، ورجع أبو سفيان بِعِيرِهِ، مشى رجال من قريش أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم ببدر، فكلموا أبا سفيان، ومن كانت له في تلك العير تجارة، فقالوا: يا معشر قريش، إن محمداً قد وتركم، وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه، لعلنا أن ندرك منه ثأراً بمن أصيب منا، ففعلوا. قال: ففيهم، كما ذكر عن ابن عباس، أنزلت الآية.

ولا يخفى شمول الآية لجميع ذلك. واللام في { لِيَصُدُّواْ } لام الصيرورة، ويصح أن تكون للتعليل؛ لأن غرضهم الصدر عما هو سبيل الله بحسب الواقع، وإن لم يكن كذلك في اعتقادهم. وسبيل الله طريقه وهو دينه، واتباع رسوله. ولما تضمن الموصول معنى الشرط، والخبر بمنزلة الجزاء، وهو { فَسَيُنفِقُونَهَا } اقترن بالفاء. و(ينفقون) إما حال، أو بدل من { كَفَرُواْ }. وفي تضمن الجزاء من معنى الإعلام والإخبار، التوبيخ على الإنفاق، والإنكار عليه، كما في قوله تعالى:وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ } [النحل: 53]. وفي تكرير الإنفاق في شبه الشرط والجزاء، الدلالة على كمال سوء الإنفاق، كما في قوله:إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ ٱلنَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } [آل عمران: 192]. وقولهم: من أدرك الصَّمَّان فقد أدرك المرعى. والمعنى: الذين ينفقون أموالهم لإطفاء نور الله، والصدّ عن اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، سيعلمون عن قريب سوء مغبة ذلك الإنفاق، وانقلابه إلى أشد الخسران، من القتل والأسر في الدنيا، والنكال في العقبى: قال المتنبي:
إذا الجودُ لم يُرْزَقْ خلاصاً من الأذى   فَلا الحمد مكسوباً ولا المالُ باقِياً
(والأذى هنا المنّ).

وفي جعل ذات الأموال تصير { حَسْرَةً } أي: ندماً وتأسفاً - وهي عاقبة أمرها - مبالغة. والمراد بالغلبة في قوله: { ثُمَّ يُغْلَبُونَ } الغلبة التي استقر عليها الأمر، وإن كان الحرب بينهم سجالاً قبل ذلك. فإن قلت: غلبة المسلمين متقدمة على تحسرهم، بالزمان، فلم أخرت بالذكر؟ قلت: المراد أنهم يغلبون في مواطن أخر بعد ذلك. كذا في (العناية).

تنبيه

قال بعضهم: ثمرة الآية خطر المعاونة على معصية الله تعالى، وأن الإنفاق في ذلك معصية، فيدخل في هذا معاونة الظلمة على حركاتهم في البغي والظلم، وكذلك بيع السلاح والكراع، ممن يستعين بذلك على حرب المسلمين.

{ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ }.