الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ ٱلْبَيْتِ إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ }

{ وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ ٱلْبَيْتِ إِلاَّ مُكَآءً } أي: تصفيراً { وَتَصْدِيَةً } أي: تصفيقاً بالأكفّ.

روى ابن جرير أن ابن عَمْرو رضي الله عنهما حكى فعلهم، فصفر، وأمال خده، وصفق بيديه. وعن ابن عمر أيضاً قال: إنهم كانوا يضعون خدودهم على الأرض ويصفرون ويصفقون. وقد روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة، يصفرون ويصفقون. وعن مجاهد أنهم كانوا يصنعون ذلك ليخلطوا على النبيّ صلى الله عليه وسلم صلاته. وقال الزهريّ: يستهزئون بالمؤمنين.

وهذا الجملة إما معطوفة على:وَهُمْ يَصُدُّونَ } [الأنفال: 34]، فيكون لتقرير استحقاقهم للعذاب، أو على قوله:وَمَا كَانُوۤاْ أَوْلِيَآءَهُ } [الأنفال: 34]، فيكون تقريراً لعدم استحقاقهم لولايته.

قال الزمخشريّ: فإن قلت: ما وجه هذا الكلام؟ قلت: هو نحو من قوله: (أي: الفرزدق):
وما كنت أخشى أن يكون عطاؤه   أَدَاهِمَ سوداً أو مُحَدْرَجَةً سُمْرَا
والمعنى: أنه وضع القيود والسياط موضع العطاء. ووضعوا المكاء والتصدية موضع الصلاة.

وذلك أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة، الرجال والنساء، وهم مشبكون بين أصابعهم، يصفرون فيها ويصفقون. وكانوا يفعلون ذلك إذا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته، يخلطون عليه. ما كنت أخشى، أي: ما كنت أعلم. وأداهم: جمع (أدهم) وهو الأسود من الحيات. والعرب تذكر (الأدهم)، وتريد به (القيد)، كما في قصة القبعثري. والمحدرجة: السياط. انتهى.

{ فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } أي: اعتقاداً وعملاً، وفيه إشعار بأن هذا الفعل المبطل لحرمة البيت، كفر، للإستهانة بشعائره تعالى والسخرية بها. والعذاب المذكور هو ما أصابهم يوم بدر من القتل والسبي، كما قاله غير واحد من السلف، واختاره ابن جرير.

تنبيه

قال ابن القيّم في (إغاثة اللهفان): المتقربون إلى الله بالصفير والتصفيق، والمخلطون به على أهل الصلاة والذكر والقراءة، أشباه هؤلاء المشركين. قال ابن عرفة وابن الأنباريّ: المكاء والتصدية ليسا بصلاة، ولكن الله تعالى أخبر أنهم جعلوا مكان الصلاة التي أمروا بها، المكاء والتصدية. فألزمهم ذلك عظيم الأوزار. وهذا كقولك: زرته فجعل جفائي صلتي، أي: أقام الجفاء مقام الصلة. والمقصود أن المصفقين والصفارين في يراع أو مزمار ونحوه، فيهم شبه من هؤلاء، ولو أنه مجرد الشبه الظاهر، فلهم قسط من الذم، بحسب تشبههم بهم، وإن لم يتشبهوا بهم في جميع مكائهم وتصديتهم، والله سبحانه لم يشرع التصفيق للرجال وقت الحاجة إليه في الصلاة إذا نابهم أمر، بل أمروا بالعدول عنه إلى التسبيح، لئلا يتشبهوا بالنساء، فكيف إذا فعلوه، لا لحاجة، وقرنوا به أنواعاً من المعاصي قولاً وفعلاً؟ انتهى.

وقال قبله: ومن مكائد عدوّ الله ومصايده التي كاد بها من قلّ نصيبه من العلم والعقل والدين، وصاد بها قلوب الجاهلين والمبطلين، سماع المكاء والتصدية، والغناء بالآلات المحرمة الذي يصدّ القلوب عن القرآن، ويجعلها عاكفة على الفسوق والعصيان.

السابقالتالي
2