الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ وَلِيُبْلِيَ ٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاۤءً حَسَناً إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }

{ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ } أي: بقوّتكم { وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمْ } أي: سبَّب في قتلهم بنصرتكم وخذلانهم وألقى الرعب في قلوبهم، وقوى قلوبكم، وأمدكم بالملائكة، وأذهب عنها الفزع والجزع { وَمَا رَمَيْتَ } أي: أنت يا خاتم النبيين، أي: ما بلغتَ رمية الحصباء إلى وجوه المشركين { إِذْ رَمَيْتَ } أي: بالحصباء؛ لأن كفاً منها لا يملأ عيون الجيش الكثير برمية بَشَرٍ { وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ } أي: بلغ بإيصال ذلك إليهم ليقهرهم. وقال أبو مسلم (في معنى الآية): أي: ما أصبت إذ رميت، ولكن الله أصاب. والرمي لا يطلق إلا عند الإصابة، وذلك ظاهر في أشعارهم.

وقد روي عن غير واحد؛ أنها نزلت في شأن القبضة من التراب التي حصب بها النبي صلى الله عليه وسلم وجوه المشركين يوم بدر، حين خرج من العريش، بعد دعائه وتضرعه واستكانته، فرماهم بها وقال: " شاهت الوجوه " ثم أمر أصحابه أن يصدقوا الحملة إثرها، ففعلوا، فأوصل الله تلك الحصباء إلى أَعْيَن المشركين، فلم يبق أحد منهم إلا ناله ما شغله عن حاله، وانهزموا.

تنبيه

قال الجشميّ: تدل الآية أن فعل العبد يضاف إليه تعالى إذا كان بنصرته ومعونته وتمكينه، إذ معلوم أنهم قتلوا، وأنه رمى، ولذلك قال: { إِذْ رَمَيْتَ } ولهذا يضاف إلى السيد ما يأتيه غلامه. وتدل على أن الإضافة بالمعونة والأمر، صارت أقوى، فلذلك قال: { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ }.

وقال في (العناية): استدل بهذه الآية والتي قبلها على أن أفعال العباد بخلقه تعالى، حيث نفى القتل والرمي. والمعنى: إذ رميت أو باشرت صرف الآلات. والحاصل: ما رميت خلقاً إذا رميت كسباً. وأورد عليه أن المدعي، وإن كان حقاً، لكن لا دلالة في الآية عليه؛ لأن التعارض بين النفي والإثبات الذي يتراءى في بادئ النظر مدفوع بأن المراد ما رميت رمياً تقدر به على إيصاله إلى جميع العيون، وإن رميت حقيقة وصورة، وهذا مراد من قال: (ما رميت حقيقة، إذ رميت صورة)، فالمنفيّ هو الرمي الكامل، والمثبت أصله، وقدر منه. فالإثبات والنفي لم يردا على شيء واحد، حتى يقال: (المنفيّ على وجه الخلق، والمثبت على وجه المباشرة)، ولو كان المقصود هذا لما ثبت المطلوب بها، الذي هو سبب النزول، من أنه أثبت له الرمي، لصدوره عنه، ونفي عنه؛ لأن أثره ليس في طاقة البشر، ولذا عدت معجزة له، حتى كأنه لا مدخل له فيها أصلاً. فمبني الكلام على المبالغة، ولا يلزم منه عدم مطابقته للواقع، لأن معناه الحقيقيّ غير مقصود. هكذا ينبغي أن يفهم هذا المقام، إذ لو كان المراد ما ذكر، لم يكن مخصوصاً بهذا الرمي؛ لأن جميع أفعال العباد كذلك بمباشرتهم وخلق الله. انتهى.

السابقالتالي
2