الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَىٰ فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ }

{ وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ } أي: يوم اللقاء { دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ } أي: مائلاً له. يقال: تحرف وانحرف واحرورف: مال وعدل، وهذا التحرف إما بالتوجه إلى قتال طائفة أخرى أهمّ من هؤلاء، وإما بالفرّ للكرّ، بأن يخيّل عدوه أنه منهزم ليغره، ويخرجه من بين أعوانه، فيفرّ عنه، ثم بكرّ عليه وحده أو مع من في الكمين من أصحابه، وهو باب من مكايد الحرب { أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَىٰ فِئَةٍ } أي: منضمًّا إلى جماعة أخرى من المسلمين ليستعين بهم { فَقَدْ بَآءَ } أي: رجع { بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } أي: ما صار إليه من عذاب النار.

تنبيهات

الأول: دلت الآية على وجوب مصابرة العدو، أي: الثبات عند القتال، وتحريم الفرار منه يوم الزحف، وعلى أنه من الكبائر، لأنه توعده عليه وعيداً شديداً.

الثاني: ظاهر الآية العموم لكل المؤمنين في كل زمن، وعلى كل حال، إلا حالة التحرف، أو التحيز، وهو مرويّ عن ابن عباس، واختاره أبو مسلم. قال الحاكم: وعليه أكثر الفقهاء. وروى عن جماعة من السلف؛ أن تحريم الفرار المذكور مختص بيوم (بدر)، لقوله تعالى: { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ } وأجيب بأن الإشارة في { يَوْمَئِذٍ } إلى يوم لقاء الزحف كما يفيده السياق، لا إلى يوم بدر.

الثالث: ذهب جماعة من السلف إلى أن معنى قوله تعالى: { أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَىٰ فِئَةٍ } أي: جماعة أخرى من المسلمين، سوى التي هو فيها، سواء قربت تلك الفئة أو بعدت. وقد روي أن أبا عبيد قتل على الجسر بأرض فارس، لكثرة الجيش من ناحية المجوس، فقال عمر رضي الله عنه: لو تحيز إليّ لكنت له فئة. وفي رواية عنه: أيها الناس! أنا فئتكم. وقال الضحاك: المتحيز إلى فئة، الفارّ إلى النبيّ وأصحابه. وكذلك من فرّ اليوم إلى أميره أو أصحابه، وجنح إلى هذا ابن كثير حيث قال: من فرّ من سرية إلى أميره، أو إلى الإمام الأعظم، دخل في هذه الرخصة. ثم أورد حديث عبد الله بن عُمَر المرويّ عند الإمام أحمد وأبي داود والترمذيّ وغيرهم، قال: " كنت في سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحاص الناس حيصة، فكنت فيمن حاص، فقلنا: كيف نصنع، وقد فررنا من الزحف، وبؤنا بالغضب، ثم قلنا: لو دخلنا المدينة. فبتنا! ثم قلنا: لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كانت لنا توبة، وإلا ذهبنا! فأتيناه قبل صلاة الغداة، فخرج فقال: " من القوم؟ " فقلنا: نحن الفرارون. فقال: " لا، بل أنتم العكّارون، أنا فئتكم وفئة المسلمين " ، قال: فأتيناه حتى قبلنا يده ". قال الترمذيّ: حديث حسن، لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن أبي زياد - انتهى.

السابقالتالي
2