الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَٱلنَّازِعَاتِ غَرْقاً } * { وَٱلنَّاشِطَاتِ نَشْطاً } * { وَٱلسَّابِحَاتِ سَبْحاً } * { فَٱلسَّابِقَاتِ سَبْقاً } * { فَٱلْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً }

{ وَٱلنَّازِعَاتِ غَرْقاً } يعني: الغزاة أو أيديهم. يقال للرامي: (نزع في قوسه) إذا مدها بالوتَر. و (نزع في قوسه فأغرق) و (أغرق النازع في القوس) إذا استوفى مدّها. ويضرب مثلاً للغلوّ والإفراط. و { غَرْقاً } بمعنى: إغراقاً كالسلام بمعنى التسليم، وهو الإغراق بحذف الزوائد. أو { وَٱلنَّازِعَاتِ } الكواكب. من: (نزع الفرس سنناً) جرى طلقاً، أي الجاريات على السير المقدر، والحد المعين، مجدّة في السير، مسرعة للغاية. { وَٱلنَّاشِطَاتِ نَشْطاً } أي: الخيل لأنها تخرج من دار إلى دار. من قولهم: (ثور ناشط) إذا خرج من بلد إلى بلد. أو هي السهام. يعني: خروجها عن أيدي الرماة ونفوذها. وكل شيء حللت، فقد نشطته. ومنه (نشاط الرجل) وهو انبساطه وخفته. أو الكواكب تنشط من برج إلى برج.

{ وَٱلسَّابِحَاتِ سَبْحاً } أي: الخيل تسبح في عَدْوها فتسبق إلى العدّو. وهو مستعار من (سبح في الماء) لكنه ألحق بالحقيقة لشهرته. أو هي الكواكب تسبح في الفَلَك؛ لأن مرورها في الجو كالسبح، كما قال تعالى:كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [الأنبياء: 33]. { فَٱلسَّابِقَاتِ سَبْقاً } أي: الخيل تسبق إلى العدو في حومة الوَغَى. أو الكواكب السيارة تسبق غيرها في السير؛ لكونها أسرع حركة. { فَٱلْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً } أي: الخيل. أسند إليها أمر تدبير الظفر مجازاً، لأنها سببه. أو المدبرات مثل المعقبات. أي: أنه يأتي في أدبار هذا الفعل الذي هو نزع السهام وسبح الخيل وسبقها الأمر الذي هو النصر. أو هي الكواكب تدبر أمراً نيط بها. كاختلاف الفصول وتقدير الأزمنة وظهور مواقيت العبادات، مجازاً أيضاً؛ لأنها سببه. أو هي الملائكة تدبر ما نيط بها من أمر الله تعالى. وقد جوز فيما قبلها أن تكون الملائكة أيضاً.

واللفظ الكريم متسع لما ذكر من المعاني بلا تدافع. ولا إمكان للجزم بواحد، إذ لا قاطع. ولذا قال ابن جرير: الصواب عندي أن يقال أنه تعالى أقسم بالنازعات غرقاً، ولم يخصص نازعة دون نازعة. فكل نازعة غرقاً، فداخلة في قَسَمِهِ، مَلَكاً أو نجماً أو قوساً أو غير ذلك. وكذا عم القَسَم بجميع الناشطات من موضع إلى موضع. فكل ناشط فداخل فيما أقسم به، إلا أن تقوم حجة يجب التسليم لها، بأن المعنى بالقَسَم من ذلك، بعض دون بعض. وهكذا في البقية. وكلامه رحمه الله متجه للغاية. إذ فيه إبقاء اللفظ على شموله، وهو أعم فائدة وعدم التكلف للتخصيص بلا قاطع. وإن كانت القرائن واستعمال موادها في مثلها وشواهدها، مما قد يخصص الصيغ. إلا أن التنزيل الكريم يُتَوَقّى في التسرُّع فيه ما لا يُتَوَقى في غيره.

لطائف

قال أبو السعود: العطف مع اتحاد الكل، بتنزيل التغاير العنوانيّ منزلة التغاير الذاتيّ. كما في قوله:
إلى الملكِ القَرْمِ وابن الهُمَامِ   ولَيْثِ الكتيبةِ في المُزْدَحَمْ
للإشعار بأن كل واحد من الأوصاف المعدودة من معظمات الأمور، حقيق بأن يكون على حياله، مُناطاً لاستحقاق موصوفه للإجلال والإعظام، بالإقسام به من غير انضمام الأوصاف الأخر إليه. والفاء في الأخيرين للدلالة على ترتبهما على ما قبلهما بغير مهلة. و { غَرْقاً } مصدر مؤكد بحذف الزوائد. وانتصاب { نَشْطاً } و { سَبْحاً } و { سَبْقاً } أيضاً على المصدرية. وأما { أَمْراً } فمفعول للمدبرات. وتنكيره للتهويل والتفخيم. والمقسَم عليه محذوف، تعويلاً على إشارة ما قبله من المقسم به إليه، ودلالة ما بعده من أحوال القيامة عليه، وهو (لنبعثن) وبه تعلق قوله تعالى:

{ يَوْمَ تَرْجُفُ... }.