الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوۤاْ أَخْرِجُوهُمْ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ }

{ وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ } أي: المستكبرين في مقابلة نصحه، { إِلاَّ أَن قَالُوۤاْ أَخْرِجُوهُمْ } أي: لوطاً والمؤمنين معه { مِّن قَرْيَتِكُمْ } أي: بلدكم. قال الزمخشري: يعني ما أجابوه بما يكون جواباً عما كلمهم به لوط عليه السلام من إنكار الفاحشة، وتعظيم أمرها، ووسمهم بسمة الإسراف الذي هو أصل الشر كله. ولكنهم جاؤوا بشيء آخر لا يتعلق بكلامه ونصيحته، من الأمر بإخراجه ومن معه من المؤمنين من قريتهم، ضجراً بهم، وبما يسمعونه من وعظهم ونصحهم. وقولهم: { إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } سخرية بهم، وبتطهرهم من الفواحش، وافتخار بما كانوا فيه من القذارة، كما يقول الشطار من الفسقة لبعض الصلحاء إذا وعظهم: أبعدوا عنا هذا المتقشف وأريحونا من هذا المتزهد.

قال ابن كثير: قال مجاهد: يتطهرون من أدبار الرجال وأدبار النساء. وروي مثله عن ابن عباس.

قال السيوطي في (الإكليل): فيستدل به على تحريم أدبار النساء، أي بناء على أن تفسير الصحابي له حكم المرفوع.

ورجح ابن القيم أنه في حكم الموقوف.

والمسألة تقدمت مستوفاة في قوله تعالى:نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ } [البقرة: 223] فتذكر.

تنبيه

قال الإمام شمس الدين ابن القيم رحمه الله في كتابه (إغَاثَةُ اللَّهْفَانِ): قد وسم الله سبحانه الشرك والزنى واللواطة بالنجاسة والخبث في كتابه، دون سائر الذنوب، وإن كان مشتملاً على ذلك، لكن الذي وقع في القرآن قوله تعالى:يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } [التوبة: 28]، وقوله تعالى في حق اللوطية:وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ ٱلْقَرْيَةِ ٱلَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ ٱلْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ } [الأنبياء: 74]، وقالت اللوطية:أَخْرِجُوۤاْ آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } [النمل: 56] فأقروا، مع شركهم وكفرهم أنهم هم الأخابث الأنجاس، وأن لوطاً وآله مطهرون من ذلك، باجتنابهم له. وقال تعالى في حق الزناة:ٱلْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَٱلْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ } [النور: 26]، وأما نجاسة الشرك فهي نوعان: نجاسة مغلظة، ونجاسة مخففة. فالمغلظة: الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله عز وجل، فإن الله عز وجل لا يغفر أن يُشرك به، والمخففة: الشرك الأصغر، كيسير الرياء، والتصنع للمخلوقات والحَلِف به، وخوفه ورجائه.

ثم قال: ونجاسة الزنى واللواطة أغلظ من غيرها من النجاسات، من جهة أنها تفسد القلب، وتضعف توحيده جداً. ولهذا أحظى الناس بهذه النجاسة أكثرهم شركاً، فكلما كان الشرك في العبد أغلب، كانت هذه النجاسة والخبائث فيه أكثر، وكلما كان أعظم إخلاصاً، كان منها أبعد، كما قال تعالى عن يوسف الصديق عليه السلام:كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ ٱلسُّوۤءَ وَٱلْفَحْشَآءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُخْلَصِينَ } [يوسف: 24] فإن عشق الصور المحرمة نوع تعبُّد لها، بل هو من أعلى أنواع التعبد، ولا سيما إذا استولى على القلب، وتمكن منه، صار تتّيماً، والتَّتَيِّمُ: التعبد، فيصير العاشق عابداً لمعشوقه، وكثيراً ما يغلب حبه وذكره، والشوق إليه، والسعي في مرضاته، وإيثار محابّه على حب الله وذكره، والسعي في مرضاته.

السابقالتالي
2