{ أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ } أي: أيام الله ولقاءه، أي: لا تعجبوا واحمدوا الله على ذلكم { وَٱذكُرُوۤاْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ } أي: خلفتموهم في مساكنهم، أو في الأرض بأن جعلكم ملوكاً بعدهم، فإن شدَّاد بن عاد ممن ملك معمورة الأرض من رمل عالج إلى شِحْر عُمَان - كذا قالوا - { وَزَادَكُمْ فِي ٱلْخَلْقِ بَصْطَةً } أي: قامة وقوة { فَٱذْكُرُوۤاْ ءَالآءَ ٱللَّهِ } أي: في استخلافكم، وبسطة أجرامكم، وما سواهما من عطاياه، لتخصصوه بالعبادة { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي: تفوزون بالفلاح. تنبيهات الأول: قال الزمخشريّ: في إجابة الأنبياء عليهم السلام، مَنْ نَسَبَهم إلى الضلال والسفاهة، بما أجابوهم به من الكلام الصادر عن الحلم والإغضاء، وترك المقابلة بما قالوا لهم، مع علمهم بأن خصومهم أضل الناس وأسفههم - أدب حسن، وخلق عظيم. وحكاية الله عز وجل ذلك، تعليم لعباده كيف يخاطبون السفهاء، وكيف يغضون عنهم ويسبلون أذيالهم، على ما يكون منهم - انتهى. وزاد القاضي: إن في ذلك كمال النصح والشفقة، وهضم النفس وحسن المجادلة قال: وهكذا ينبغي لكل ناصح - انتهى. الثاني: لا يعتمد ما يذكره بعض المؤرخين المولعين بنقل الغرائب، بدون وضعها على محك النظر والنقد، من المبالغة في طول قوم عاد، وضخامة أجسامهم، وأن أطولهم كان مائة ذراع، وأقصرهم كان ستين ذراعاً، فإن ذلك لم يقم عليه دليل عقلي ولا نقلي، وهو وهم. وأما قوله جل شأنه مخاطباً لقوم عاد: { وَزَادَكُمْ فِي ٱلْخَلْقِ بَصْطَةً } فإنه لا يدل على ما أرادوا، وإنما يدل على عظم أجسامهم وقوتهم وشدتها، وهذا من الأمور المعتادة. فإن الأمم ليست متساوية في ضخامة الجسم وطوله وقوّته، بل تتفاوت لكن تفاوتاً قريباً. ومما يدل على أن أجسام من سلف كأجسامنا، لا تتفاوت عنها تفاوتاً كبيراً، مساكن ثمود قوم صالح الباقية، وآثارهم البادية. ومثله، بل أعرق منه في الوهم، ما ينقلونه وصف عوج بن عنق الجبار ملك بيسان، من أنه كان يحتجز بالسحاب ويشرب منه من طوله، ويتناول الحوت من قرار البحر، فيشويه بعين الشمس، يرفعه إليها. والحال أن الشمس كوكب، لا مزاج له من حر أو برد، وإنما حرارتها من انعكاس شعاعها، بمقابلة سطح الأرض والهواء، فشدة حرارتها في الأرض، وتتناقص الحرارة فيما علا عنها بمقدار الارتفاع. وقد أنكر العلامة ابن خلدون جميع ذلك في (مقدمة تاريخه)، وأبان أن الذي أدخل الوهم على الناس في طول الأقدمين هو ما يشاهدونه من بعض آثارهم الجسيمة، ومصانعهم العظيمة، كأهرام مصر، وإيوان كسرى، فيتخيلون لأصحابها أجساماً تناسب ذلك. والحال أن عظم هذه المصانع والآثار في أمة من الأمم ناشئ عن عظم ذواتها، واتساع ممالكها، وقوة شوكتها، ونماء ثروتها، واستعانتها بالماهرين في فن جر الأثقال، فإنه يقوم بحمل ما تعجز القوى البشرية عن عشر معشاره.