الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ }

{ ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } نصب على الحال، أي: ذوي تضرع وخفية، والتضرع (تفّعل) من (الضراعة) وهو الذل. والخفية (بضم الخاء وكسرها)، مصدر خَفِيَ كرضي بمعنى: اختفى، أي: استتر وتوارى. وإنما طلب الدعاء مع تينك الحالتين؛ لأن المقصود من الدعاء أن يشاهد العبد حاجته وعجزه وفقره لربه ذي القدرة الباهرة، والرحمة الواسعة. وإذا حصل له ذلك، فلا بد من صونه على الرياء، وذلك بالاختفاء، توصلاً للإخلاص.

فوائد

في هذه الآية مشروعية الدعاء، بشرطَيْه المذكورين:

قال السيوطي في (الإكليل): ومن التضرع رفع الأيدي في الدعاء، فيستحب. وقد أخرج البزار عن أنس قال: رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه بعرفة يدعو، فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: هذا الابتهال. ثم خاضت الناقة، ففتح إحدى يديه فأخذها وهو رافع الأخرى - انتهى.

وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعريّ قال: رفع الناس أصواتهم بالدعاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أيها الناس، اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصمّ ولا غائباً، إن الذي تدعون سميع قريب... " الحديث.

وقال عبد الله بن المبارك عن مبارك بن فضالة عن الحسن قال: إن كان الرجل، لقد جمع القرآن وما يشعر به الناس؛ وإن كان الرجل، لقد فقه الكثير وما يشعر به الناس؛ وإن كان الرجل، ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزَّوْر وما يشعرون به. ولقد أدركنا أقواماً ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملوه في السر، فيكون علانية أبداً. ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء، وما يسمع لهم صوت، إن كان إلا همساً بينهم وبين ربهم وذلك أن الله تعالى يقول: { ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً }. وذلك أن الله ذكر عبداً صالحاً رضي فعله فقال:إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً } [مريم: 3].

وقال ابن جريج: يكره رفع الصوت والنداء والصياح في الدعاء، ويؤمر بالتضرع والاستكانة.

وقال الناصر في (الانتصاف): وحسبك في تعين الإسرار في الدعاء اقترانه بالتضرع في الآية، فالإخلال بالضراعة إلى الله في الدعاء، وإن دعاءً لا تضرع فيه ولا خشوع، لقليل الجدوى، فكذلك دعاء لا خفية ولا وقار يصحبه. وترى كثيراً من أهل زمانك يعتمدون الصراخ والصياح في الدعاء، خصوصاً في الجوامع، حتى يعظم اللغط ويشتد، وتستك المسامع وتستد، ويهتز الداعي بالناس، ولا يعلم أنه جمع بين بدعتين: رفع الصوت في الدعاء، وفي المسجد. وربما حصلت للعوامّ حينئذ رقة لا تحصل مع خفض الصوت، ورعاية سمت الوقار، وسلوك السنة الثابتة بالآثار. وما هي إلا رقة شبيهة بالرقة العارضة للنساء والأطفال، ليست خارجة عن صميم الفؤاد، لأنها لو كانت من أصل، لكانت عند اتباع السنة في الدعاء، وفي خفض الصوت به، أوفر وأوفى وأزكى.

السابقالتالي
2