الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى ٱلأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ }

{ وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ } أي: بين الفريقين سور وستر، أو بين الجنة والنار، ليمنع وصول أثر إحداهما إلى الأخرى. وقد سمي هذا الحجاب سوراً في آيةفَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ ٱلرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ ٱلْعَذَابُ } [الحديد: 13] وقوله تعالى: { وَعَلَى ٱلأَعْرَافِ رِجَالٌ } أي: على أعراف الحجاب وشرفاته وأعاليه، وهو السور المضروب بينهما، جمع عَرْف، مستعار من عرف الفرس، وعرف الديك، وكل ما ارتفع من الأرض عرف، فإنه بظهوره أعرف مما انخفض.

وقد حكى المفسرون أقوالاً كثيرة في رجال الأعراف، عن التابعين وغيرهم، أنهم فضلاء المؤمنين، أو هم الشهداء، أو الأنبياء، أو قوم أوذوا في سبيل الله، فاطلعوا على أعدائهم ليشمتوا بهم، فعرفوهم بسيماهم، وسلّموا على أهل الجنة. واللفظ، لإبهامه، يحتمل ذلك؛ لأن السياق يدل على سموّ قدرهم، لا سيما بجعل منازلهم الأعراف، وهي الأعالي، والشرف، كما تقدم ومن ذكر كلهم جديرون بذلك - والله أعلم.

{ يَعْرِفُونَ كُلاًّ } أي: من أهل الجنة والنار { بِسِيمَاهُمْ } أي: بعلامتهم التي أعلمهم الله بها، كبياض الوجه وسواده.

فائدة

السيما مقصورة وممدودة، والسيمة والسيمياء بكسرهن العلامة. قال القاضي: السيمى فِعْلى، مِنْ (سام إبله) إذا أرسلها في المرعى معلمة. أو من (وسم) على القلب كـ (الجاه) من (الوجه). انتهى. وعلى الثاني اقتصر ابن دريد { وَنَادَوْاْ } أي: رجالُ الأعراف { أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ } أي: حين رأوهم من أعرافهم، وقد عرفوهم من سيماهم أنهم أهل الجنة { أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ } بطريق الدعاء والتحية، أو بطريق الإخبار بنجاتهم من المكاره. والوجه الأول هو المأثور عن ابن عباس رضي الله عنه فيما رواه عنه العوفيّ. قال رضي الله عنه: أنزلهم الله بتلك المنزلة ليعرفوا مَن في الجنة والنار، وليعرفوا أهل النار بسواد الوجوه، ويتعوذوا بالله أن يجعلهم مع القوم الظالمين، وهم في ذلك يحيون أهل الجنة بالسلام { لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ } الضميران في الجملتين لأصحاب الأعراف، والأولى حال من الواو، والثانية حال من فاعل { يَدْخُلُوهَا } ، أي: نادَوْهم وهم لم يدخلوا الجنة بعدُ، حال كونهم طامعين في دخولها، مترقبين.

قال الجشميّ رحمه الله: قيل: إذا كان أصحاب الأعراف أفاضل المؤمنين، فلِمَ تأخر دخولهم؟ قلنا: هم تعجلوا اللذة بالشماتة من الأعداء، وإن تأخر دخولهم؛ لظهور فضلهم، وجلالة طريقهم إلى منازلهم اهـ.

ولا يبعد عندي أن تكون جملة { لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ } حالاً من (أصحاب الجنة) أي نادوهم بالسلام وهم في الموقف على طمع دخول الجنة يبشرونهم بالأمان والفوز من العذاب، إشارة إلى سبق أهل الأعراف على غيرهم في دخول الجنة، وعلوّ منازلهم على سواهم - والله أعلم.

وذهب أبو مجلز إلى أن الضميرين لأصحاب الجنة، أي: نادى أهلُ الأعراف أصحابَ الجنة بالسلام، حال كون أصحاب الجنة لم يدخلوها وهم يطمعون في دخولها، وهو وجه جيّد، فالجملة الأولى حال من المفعول وهو (أصحاب الجنة) والثانية حال من فاعل (يدخلوها).