الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ ٱلْكِتَٰبَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـٰذَا ٱلأَدْنَىٰ وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَٰقُ ٱلْكِتَٰبِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }

{ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ } أي: من بعد هؤلاء المذكورين { خَلْفٌ } أي: بدل سوء، والمراد بهم الذين كانوا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم. و(الخلف) مصدر، ولذا يوصف به المفرد وغيره، وقد شاع في الصالح، ومفتوح اللام بـ (الصالح)، وربما جاء عكسه { وَرِثُواْ ٱلْكِتَٰبَ } أي: التوراة من أسلافهم المختلفين، يقرؤونها ويقفون على ما فيها من الأوامر والنواهي، والتحليل والتحريم، ولا يعملون بها كما قال: { يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـٰذَا ٱلأَدْنَىٰ } أي: حطام هذا الشيء الأدنى، يريد الدنيا، وما يتمتع به منها. وفي قوله: { هَـٰذَا ٱلأَدْنَىٰ } تخسيس وتحقير. و(العَرَضَ) بفتح الراء، ما لا ثبات له، ومنه استعار المتكلمون (العرض) لمقابل (الجوهر). و (الأدنى) إما من الدنوّ، بمعنى القرب؛ لأنه عاجل قريب بالنسبة إلى الآخرة، وإما من دنوّ الحال وسقوطها وقلتها { وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا } أي: يعتاضون عن بذل الحق ونشره، بعرض الحياة الدنيا، ويتحكمون على الله تعالى بأنه لا يؤاخذهم بما أخذوا { وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ } الواو للحال، أي: يرجون المغفرة، وهم مصرّون عائدون إلى مثل فعلهم، غير تائبين، كلما لاح لهم مثل الأول أخذوه { أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَٰقُ ٱلْكِتَٰبِ } أي: الميثاق الوارد فيه، { أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ } أي: فلو صح ما تحكموا به على الله، لم يكن لأخذ هذا الميثاق معنى.

ثم أخبر تعالى أن أخذهم ليس عن جهلهم بذلك الميثاق بقوله: { وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ } أي: قرؤوا ما في الكتاب من الميثاق مرة بعد مرة { وَٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ خَيْرٌ } أي: من ذلك العرض الخسيس { لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ } أي: أخذ هذا الأدنى بدل كتم الحق { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أي: فتعلموا ذلك، فلا تستبدلوا الأدنى المؤدي إلى العقاب، بالنعيم المخلد، وقرئ بالياء، وفي الإلتفات تشديد للتوبيخ.

ثم أثنى تعالى على من تمسك بكتابه الذي يقوده إلى اتباع رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، كما هو مكتوب فيه، بقوله سبحانه:

{ وَٱلَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِٱلْكِتَابِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ... }.