الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَلَمَّا جَآءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِيۤ أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـٰكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَىٰ صَعِقاً فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُؤْمِنِينَ }

{ وَلَمَّا جَآءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا } أي: حضر الجبل لوقتنا الذي وقَّتنا له وحددنا { وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } أي: خاطبه من غير واسطة ملك { قَالَ رَبِّ أَرِنِيۤ أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـٰكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي } أي: لن تطيق رؤيتي؛ لأن هذه البنية الآدمية في هذه النشأة الدنيوية، لا طاقة لها بذلك، لعدم استعدادها له، بل ما هو أكبر جرماً، وأشد خلقاً وصلابة - وهو الجبل - لا يثبت لذلك، بل يندكّ. ولذا قال تعالى: { وَلَـٰكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ } أي: الذي هو أقوى منك { فَإِنِ اسْتَقَرَّ } أي: ثبت مكانه، حين أتجلى له، ولم يتزلزل { فَسَوْفَ تَرَانِي } ، أي: تثبت لرؤيتي، إذا تجليت عليك، وإلا فلا طاقة. وفيه من التلطيف بموسى، والتكريم له، والتنزل القدسيّ - ما لا يخفى { فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ } أي: ظهر له وبان - قاله الزجاج - { جَعَلَهُ } أي: التجلي { دَكّاً } أي: مفتتاً، فلم يستقر مكانه. فنبه تعالى على أن الجبل، مع شدته وصلابته، إذا لم يستقر، فالآدمي مع ضعف بنيته أولى بألا يستقر، وفيه تسكين لفؤاد موسى، بأن المانع من الانكشاف الإشفاق عليه، وأما أن المانع محالية الرؤية، فليس في القرآن إشارة إليه { وَخَرَّ } أي: وقع { موسَىٰ صَعِقاً } أي: مغشياً عليه من هول ما رأى { فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ } أي: من الإقدام على سؤالي الرؤية { وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُؤْمِنِينَ } أي: بأنه لا يستقر أحدٌ في هذه المنشأة.

قال في (الانتصاف): إنما سبح موسى عليه السلام لِمَا تبين له من أن العلم قد سبق بعدم وقوع الرؤية في الدنيا، والله تعالى مقدس عن وقوع خلاف معلومه، وعن الخلف في خبره الحق وقوله الصدق، فلما تبين أن مطلوبه كان خلاف المعلوم، سبح لله، وقدس علمه وخبره عن الخلف. وأما التوبة في حق الأنبياء فلا تستلزم كونها عن ذنب، لأن منصبهم الجليل ينبغي أن يكون منزهاً مبرأ من كل ما ينحط به، ولا شك أن التوقف في سؤال الرؤية على الإذن كان أكمل. وقد ورد: (سيئات المقربين، حسنات الأبرار).

تنبيه

قال متكلمون: دلت الآية على جواز رؤيته تعالى من وجهين:

الأول: أن سؤال موسى عليه السلام الرؤية يدل على إمكانها، لأن العاقل، فضلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، لا يطلب المحال، ولا مجال للقول بجهل موسى عليه السلام بالإستحالة، فإن الجاهل بما لا يجوز على الله، لا يصلح للنبوة. إذ الغرض من النبوة هداية الخلق إلى العقائد الحقة، والأعمال الصالحة. ولا ريب في نبوة موسى عيه السلام، وأنه من أولي العزم.

الثاني: أنه تعالى علق الرؤية على استقرار الجبل، وهو أمر ممكن في نفسه والمعلق على الممكن ممكن؛ لأن معنى التعليق الإخبار بوقوع المعلق عند وقوع المعلق به.

السابقالتالي
2 3