الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ فَالِقُ ٱلإِصْبَاحِ وَجَعَلَ ٱلْلَّيْلَ سَكَناً وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ حُسْبَاناً ذٰلِكَ تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ }

قوله تعالى: { فَالِقُ ٱلإِصْبَاحِ } خبر آخر لـ (إنَّ)، أو لمبتدأ محذوف. و { ٱلإِصْبَاحِ } مصدر سمي به الصبح. قال امرؤ القيس:
ألا أيها الليل الطويلُ ألا انْجَلِي   بصُبْح وما الإصباحُ فيك بأمثَل
أي: شاقُّه عن ظلمة الليل { وَجَعَلَ ٱلْلَّيْلَ سَكَناً } أي: صيّر الظلام يسكن إليه، ويطمئن به، استرواحاً من تعب النهار. أو يسكن فيه الخلق، أي: يقرّوا ويهدؤا (من السكون) - وهو الأظهر لقوله: { لِتَسْكُنُواْ فِيهِ } [يونس: 67، والقصص: 73] وقُرئ: (وَجَاعِلُ اللَّيلِ).

{ وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ حُسْبَاناً } أي: على أدوار مختلفة، لتحسب بهما الأوقات التي نيط بها العبادات والمعاملات. كما ذكره في سورة يونس في قوله:هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمْسَ ضِيَآءً وَٱلْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلْحِسَابَ } [يونس: 5].

{ ذٰلِكَ } أي: التسيير بالحساب المعلوم { تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ } أي: الغالب على أمره، { ٱلْعَلِيمِ } بتدبيرهما، ومراعاة الحكمة في شأنهما.

تنبيهات

الأول: قال الرازيّ: قوله تعالى: { فَالِقُ ٱلإِصْبَاحِ... } الآية، نوع آخر من دلائل وجود الصانع وعلمه وقدرته وحكمته. فالنوع المتقدم كان مأخذوذاً من دلالة أحوال النبات والحيوان. والنوع المذكور في هذه الآية مأخوذ من الأحوال الفلكية. وذلك لأن فلق ظلمة الليل بنور الصبح أعظم في كمال القدرة من فلق الحب والنوى بالنبات والشجر، ولأن من المعلوم بالضرورة أن الأحوال الفلكية أعظم في القلوب وأكثر وقعاً من الأحوال الأرضية. ثم قرر الحجة من وجوه عديدة، وأجاد رحمه الله.

الثاني: قُرئ: (الأصْبَاحِ) بفتح الهمزة، على أنه جمع صُبْح، كقُفْل وأقفال.

الثالث: في (البحر الكبير): أن السنة الشرعية قمرية لا شمسية، والشمسية مما حدث في دواوين الخراج، وإنما أضيف الحساب في الآية إليهما؛ لأن بطلوع الشمس ومغيبها يعرف عدد الأيام التي تتركب منها الشهور والسنون، فمن هنا دخلت - انتهى.

الرابع: قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: وكثيراً ما إذا ذكر الله تعالى خلق الليل والنهار والشمس والقمر يختم الكلام بالعزة والعلم، كما ذكر في هذه الآية، وكما في قوله:وَآيَةٌ لَّهُمُ ٱلَّيلُ نَسْلَخُ مِنْهُ ٱلنَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ * وَٱلشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَـا ذَلِكَ تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ } [يس: 37-38] ولما ذكر خلق السماوات والأرض وما فيهن في أول سورة (حم السجدة) قال:وَزَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِمَصَٰبِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ } [فصلت: 12]. انتهى.

وفي (العزة) معنى القهر، أي: الذي قهرهما بجعلهما مسخرين، لا يتيسر لهما إلا ما أريد بهما، كما قال:وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ } [الأعراف: 54]، ومعنى القدرة الكاملة أيضاً.

قال الرازيّ: { ٱلْعَزِيزِ } إشارة إلى كمال قدرته، و { ٱلْعَلِيمِ } إشارة إلى كمال علمه. ومعناه: أن تقدير أجرام الأفلاك بصفاتها المخصوصة وهيآتها المحدودة، وحركاتها المقدرة بالمقادير المخصوصة في البطء والسرعة، لا يمكن تحصيله إلا بقدرة كاملة متعلقة بجميع الممكنات، وعلم نافذ في جميع المعلومات من الكليات والجزئيات، وذلك تصريح بأن حصول هذه الأحوال والصفات ليس بالطبع والخاصة. وإنما هو بتخصيص الفاعل المختار - والله أعلم.

الخامس: أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى: { حُسْبَاناً } قال: يعني عدد الأيام والشهور والسنين. وقال قتادة: يدوران في حساب. قال السيوطيّ: فالآية أصل في الحساب والميقات. انتهى.

ثم بيّن تعالى نعمته في الكواكب، إثْرَ بيان نعمته في النيّرين إعلاماً بكمال قدرته وحكمته ورحمته بقوله سبحانه:

{ وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلنُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَٰتِ ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ... }.