الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ إِنَّ ٱللَّهَ فَالِقُ ٱلْحَبِّ وَٱلنَّوَىٰ يُخْرِجُ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ ٱلْمَيِّتِ مِنَ ٱلْحَيِّ ذٰلِكُمُ ٱللَّهُ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ }

{ إِنَّ ٱللَّهَ فَالِقُ ٱلْحَبِّ وَٱلنَّوَىٰ } شروع في بعض مبدعاته الدالة على كمال قدرته، وعلمه وحكمته، إثر تقرير شأن توحيده تعالى، وذلك للتنبيه على أن المقصود الأعظم هو معرفته سبحانه وتعالى بجميع صفاته وأفعاله، وأنه مبدع الأشياء وخالقها. ومن كان كذلك كان هو المستحق للعبادة، لا هذه الأصنام التي كانوا يعبدونها، ولتعريف خطئهم في الإشراك الذي كانوا عليه. والمعنى: أن الذي يستحق العبادة دون غيره، هو الله الذي فلق الحب عن النبات، والنواة عن النخلة.

وفي معنى (فالق) قولان:

أحدهما: أنه بمعنى: خالق. وهو قول ابن عباس في رواية العوفيّ عنه. وبه قال الضحاك ومقاتل. قال الواحديّ: ذهبوا بـ (فالق) مذهب (فاطر). وأنكر الطبريّ هذا، وقال: لا يعرف في كلام العرب (فلق الله الشيء)، بمعنى خلق. ونقل الأزهريّ عن الزجاج جوازه. وكذا المجد في القاموس.

قال الرازيّ: (الفطر): هو الشق، وكذلك (الفلق). فالشيء قبل أن يدخل في الوجود كان معدوماً محضاً، ونفياً صرفاً. والعقل يتصور من العدم ظلمة متصلة لا انفراج فيها، ولا انفلاق، ولا انشقاق. فإذا أخرجه المبدع الموجد من العدم إلى الوجود، فكأنه بحسب التخيل والتوهم شق ذلك العدم وفلقه، وأخرج المحدَث من ذلك الشق. فهذا التأويل لا يبعد حمل الفالق على الموجد والمبدع.

والقول الثاني: وهو قول الأكثرين: أن الفلق: هو الشق. وفي معناه وجهان: أحدهما: مرويّ عن ابن عباس قال: فلق الحبة عن السنبلة، والنواة عن النخلة. وهو قول الحسن والسدّيّ وابن زيد. قال الزجاج: يشق الحبة اليابسة، والنواة اليابسة، فيخرج منها ورقاً أخضر. والوجه الثاني: وهو قول مجاهد: أنه الشقان اللذان في الحب والنوى.

وضعِّف: بأنه لا دلالة فيه على كمال القدرة.

و (الحب): ما ليس له نوى، كالحنطة والشعير والأرز.

و (النوى): جمع نواة، وهو الموجود في داخل الثمرة، مثل نوى التمر والخوخ وغيرهما.

قال الإمام الرازيّ: إذا عرفت ذلك، فنقول: إنه إذا وقعت الحبة أو النواة في الأرض الرطبة، ثم مرّ به قدر من المدة، أظهر الله تعالى في تلك الحبة والنواة من أعلاها شقاً، ومن أسفلها شقاً آخر، فالأول يخرج منه الشجرة الصاعدة إلى الهواء والثاني يخرج منه الشجرة الهابطة في الأرض، المسماة بعروق الشجرة. وتصير تلك الحبة والنواة سبباً لاتصال الشجرة الصاعدة في الهواء بالشجرة الهابطة في الأرض.

ثم إن ههنا.

عجائب

فإحداها: أن طبيعة الشجرة، إن كانت تقتضي الهويَّ في عمق الأرض، فكيف تولدت منها الشجرة الصاعدة في الهواء؟ وإن كانت تقتضي الصعود في الهواء، فكيف تولدت منها الشجرة الهابطة في الأرض؟ فلما تولد منها الشجرتان، مع أن الحس والعقل يشهد بكون طبيعة إحدى الشجرتين مضادة لطبيعة الشجرة الأخرى - علمنا أن ذلك ليس بمقتضى الطبع والخاصية، بل بمقتضى الإيجاد والإبداع والتكوين والاختراع.

السابقالتالي
2 3 4