الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَٰدَىٰ كَمَا خَلَقْنَٰكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَٰكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ }

{ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا } أي: للحساب والجزاء { فُرَٰدَىٰ } أي: منفردين عن الأموال والأولاد، وما أثرتموه من الدنيا. أو عن الأعوان والأوثان التي زعمتم أنها شفعاؤكم. و (فرادى) جمع فريد، كأسير وأسارى.

{ كَمَا خَلَقْنَٰكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } أي: مشبهين ابتداء خلقكم، حفاة عراة غرلا (يعني قلفاً).

روى الشيخان عن ابن عباس قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال: " أيها الناس، إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا، { كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } [الأنبياء: 104] ".

ورويا أيضاً عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " " تحشرون حفاة عراة غرلاً " قالت عائشة: فقلت: يا رسول الله، الرجال والنساء جميعاً ينظر بعضهم إلى بعض؟! قال: " الأمر أشد من أن يهمهم ذلك " ".

وروى الطبري بسنده عن عائشة أنها قرأت قول الله عز وجل: { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَٰدَىٰ كَمَا خَلَقْنَٰكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } فقالت: يا رسول الله، واسوأتاه! إن الرجال والنساء يحشرون جميعاً ينظر بعضهم إلى سوأة بعض! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه. لا ينظر الرجال إلى النساء، ولا النساء إلى الرجال، شُغِل بعضهم عن بعض ".

{ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَٰكُمْ } ما تفضلنا به عليكم في الدنيا، فشغلتم به عن الآخرة من الأموال والأولاد والخدم والخول { وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ } يعني: في الدنيا، ولم تحملوا منه نقيراً. كناية عن كونهم لم يصرفوه إلى ما يفيد في الآخرة.

وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يقول ابن آدم: مالي! مالي! وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت " ؟ وزاد في رواية: " وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس ".

{ وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ } أي: لله في الربوبية، واستحقاق العبادة، { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } قرئ بالرفع. أي: شملكم. فإن البين من الأضداد، يستعمل للوصل والفصل. وبالنصب على إضمار الفاعل، لدلالة ما قبله عليه. أي: تقطع الأمر، أو الاشتراك، أو وصلكم بينكم. أو على إقامته مقام موصوفه. والأصل: لقد تقطع ما بينكم، وقد قرئ به. أي: تقطع ما بينكم من الأسباب والوصلات.

{ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } أي: ذهب عنكم ما زعمتم من رجاء الأنداد والأصنام، كقوله تعالى:إِذْ تَبَرَّأَ ٱلَّذِينَ ٱتُّبِعُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ ٱلأَسْبَابُ * وَقَالَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ ٱللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ ٱلنَّارِ } [البقرة: 166-167]، وقال تعالى:فَإِذَا نُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ } [المؤمنون: 101]،وَقَالَ إِنَّمَا ٱتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً } [العنكبوت: 25]. والآيات في هذا كثيرة جداً.