الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ ٱلْكِتَٰبَ ٱلَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَىٰ نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُوۤاْ أَنتُمْ وَلاَ ءَابَآؤُكُمْ قُلِ ٱللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ }

{ وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } أي: ما عظموه حق تعظيمه و (حَقَّ) نصب على المصدرية، وهو في الأصل صفة للمصدر. أي: قَدْرَهُ الحقَّ، فلما أَضيف إلى موصوفه انتصب على ما كان ينتصب عليه موصوفه. { إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ } أي: حين اجترؤوا على التفوه بهذه الجملة الشنعاء، وذلك منهم مبالغة في إنكار إنزال القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فألزموا بما لا سبيل لهم إلى إنكاره أصلاً. حيث قيل في جواب سلبهم العام، بإثبات قضية جزئية بديهية التسليم:

{ قُلْ مَنْ أَنزَلَ ٱلْكِتَٰبَ ٱلَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَىٰ نُوراً } حال من الضمير في { بِهِ } أو من { ٱلْكِتَٰبَ } ، { وَهُدًى لِّلنَّاسِ } أي: ضياء من ظلمة الجهالة، وبياناً يفرق بين الحق والباطل، { تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا }: يجزئونه أوراقاً يبدونها للناس مما ينتخبونه. أي: فكيف ينكر إنزال شيء، وهذا المنزل المذكور ظاهر للعيان. والعدول عن التوراة إلى ذكر الكتاب وصفته، والحال بعده - لزيادة التقريع، وتشديد التبكيت، وإلقام الحجر. { وَتُخْفُونَ كَثِيراً } معطوف على (تُبْدُونَها)، والعائد محذوف. أي: كثيراً منها. أو كلام مبتدأ لا محل له من الإعراب. أي: وهم يخفون كثيراً. أي: ومع ذلك فالإلزام يكفي بما يبدونه، المعترف لديهم بحقيّته. وفيه نعي على أهل الكتاب بسوء صنيعهم المذكور، إذ ما يريدون بإخفاء كثير منها إلا تبديل الدين.

{ وَعُلِّمْتُمْ } أي: على لسان محمد صلى الله عليه وسلم { مَّا لَمْ تَعْلَمُوۤاْ أَنتُمْ وَلاَ ءَابَآؤُكُمْ } من المعارف التي لا يرتاب في أنها تنزيل ربانيّ، { قُلِ ٱللَّهُ } أي: أنزله الله، أو الله أنزله. أمَرَهُ بأن يجيب عنهم، إشعاراً بأن الجواب متعين لا يمكن غيره، وتنبيهاً على أنهمُ بُهِتوا، بحيث إنهم لا يقدرون على الجواب.

{ ثُمَّ } بعد التبليغ وإلزام الحجة { ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ } أي: في باطلهم { يَلْعَبُونَ } أي: يفعلون فعل اللاعب، وهو ما لا يجرّ لهم نافعاً، ولا يدفع عنهم ضرراً، مع تضييع الزمان.

تنبيه

في هذه الآية قولان:

الأول: أنها مكية النزول تبعاً للسورة، وأن القائل ذلك: هم المشركون، وإلزامهم إنزال التوراة، لما أنه كان عندهم من المشاهير الذائعة، وهذا هو الظاهر.

قال ابن كثير: قال ابن عباس ومجاهد، وعبد الله بن كثير: هذه الآية نزلت في قريش، واختاره ابن جرير. قال ابن كثير: وهو الأصح؛ لأن اليهود لا ينكرون إنزال الكتب من السماء، وأما كفار قريش فكانوا ينكرون رسالة النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنه من البشر، كما قال تعالى:أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ ٱلنَّاسَ } [يونس: 2]، وكقوله تعالى:وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُوۤاْ إِذْ جَآءَهُمُ ٱلْهُدَىٰ إِلاَّ أَن قَالُوۤاْ أَبَعَثَ ٱللَّهُ بَشَراً رَّسُولاً }

السابقالتالي
2 3 4