الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ }

{ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ } أي: وجه قلبي وروحي في المحبة والعبادة، بل جعلته مسلماً { لِلَّذِي فَطَرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ حَنِيفاً } أي: مائلا عن الأديان الباطلة، والعقائد الزائغة، { وَمَآ أَنَاْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ }.

وفي هذا المقام مباحث

الأول: توسع المفسرون هنا في قوله:هَـٰذَا رَبِّي } [الأنعام: 76].

فمن قائل بأن المتكلم بهذا آزر، وأنه لما قال ذلك، قال إبراهيم:لاۤ أُحِبُّ ٱلآفِلِينَ } [الأنعام: 76].

وقيل: إنه إبراهيم، وكان ذلك في حال الطفولية، قبل استحكام النظر في معرفة الله تعالى لقوله:لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي... } [الأنعام: 77] إلخ.

وقيل: بعد بلوغه وتكريمه بالرسالة، إلا أنه أراد الاستفهام الإنكاريّ، توبيخاً لقومه، فحذف الهمزة، ومثله كثير.

وقيل: على إضمار القول أي: يقولون: هذا ربي، وإضمار القول كثير.

وقيل: المعنى في زعمكم واعتقادكم.

وقيل: الإخبار على سبيل الاستهزاء... إلى أقوال أخر.

والقصد في ذلك: تنزيه مقامه عليه الصلاة والسلام عن الشك والحيرة، واعتقاد ربوبية ذلك، لمنافاته للعصمة.

وأقول: هذا مسلّم بلا ريب، ولكنّ الأوجَه من جميع ذلك كله ما أسلفناه أولا من أن قوله:هَـٰذَا رَبِّي } [الأنعام: 76] من باب استعمال النصفة مع الخصوم، على سبيل الوضع، وهو سوق مقدمة في الدليل لا يعتقدها، لكونها مسلمة عند غيره، لأجل إلزامه بها. وهو مصطلح أهل الجدل. وقد اقتصر الزمخشريّ على هذا الوجه الفريد.

قال الناصر في (الانتصاف): ذلك متعين. وقد ورد في الحديث الوارد في الشفاعة أنهم يأتون إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فيلتمسون منه الشفاعة، فيقول: نفسي! نفسي! ويذكر كذباته الثلاث، ويقول: لست لها، يريد قوله لسارة هي أختي، وإنما عنى: في الإسلام. وقوله: إنه سقيم، وإنما عنى همّه بقومه وبشركهم والمؤمن يسقمه ذلك - وقوله:بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ } [الأنبياء: 63]، وقد ذكرت فيه وجوه من التعريض. فإذا عدّ صلوات الله عليه وسلامه على نفسه هذه الكلمات، مع العلم بأنه غير مؤاخذ بها، دلّ ذلك على أنها أعظم ما صدر منه. فلو كان الأمر على ما يقال، من أن هذا الكلام محكيّ عنه على أنه نظره لنفسه، لكان أولى أن يعدّه، وأعظم، مما ذكرناه. لأنه حينئذ يكون شكّا، بل جزما. على أن الصحيح أن الأنبياء قبل النبوة معصومون من ذلك، انتهى.

وقال الحافظ ابن كثير: اختلف المفسرون في هذا المقام، هل هو مقام نظر أو مناظرة؟ فروى ابن جرير من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس ما يقتضي أنه مقام نظر. واختاره ابن جرير مستدلاً عليه بقوله:لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي } [الأنعام: 77] الآية. وقال محمد بن إسحاق: قال ذلك حين خرج من السَّرَب الذي ولدته فيه أمه، حين تخوفت عليه من نمروذ بن كنعان، لما كان قد أُخبر بوجود مولود يكون ذهاب ملكه على يديه، فأمر بقتل الغلمان عامئذ.

السابقالتالي
2 3 4 5 6