الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَكَذَلِكَ نُرِيۤ إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ ٱلْمُوقِنِينَ }

{ وَكَذَلِكَ نُرِيۤ إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي: نطلعه على حقائقهما، ونبصره في دلالتهما على شؤونه عز وجل، من حيث إنهما بما فيهما، مربوبان ومملوكان، له تعالى. و (الملكوت) مصدر على زنة المبالغة، كالرَّهبوت والجَبَروت، ومعناه: الملك العظيم، والسلطان القاهر. وقيل: ملكوتهما عجائبهما وبدائعهما. وقد أسلفنا الكلام في (وكذلك) قريباً عند قوله تعالى:وَكَذٰلِكَ فَتَنَّا } [الأنعام: 53] وأن مختار الزمخشري كونه إشارة إلى مصدر ما بعده، والكاف مقحمة، والتقدير: تلك الإراءة والتبصير البديع، نريه ونبصره. فجدّد به عهداً.

{ وَلِيَكُونَ مِنَ ٱلْمُوقِنِينَ } عطف على علة محذوفة لم تقصد بعينها، إشعاراً بأن لتلك الإراءة فوائد جمة، من جملتها ما ذكر.

قال المهايميّ في الآية: { وَكَذَلِكَ نُرِيۤ إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } ليعلم أن شيئاً من روحانيات الأفلاك والكواكب والمشايخ والشياطين لا يصلح للإلهية. { وَلِيَكُونَ مِنَ ٱلْمُوقِنِينَ } بالتوحيد بالاستدلال بالأدلة الكثيرة. وقيل: { وَلِيَكُونَ } علة لمقدر هو عبارة عن المذكور. أي: وليكون من الموقنين بالتوحيد، فعلنا ما فعلنا من الإراءة والتبصير بآيات السماوات والأرض.

لطائف

الأولى: قال الرازي: وههنا دقيقة عقلية، وهي أن نور جلال الله تعالى لائح غير منقطع ولا زائل ألبتة، والأرواح البشرية، لا تصير محرومة عن تلك الأنوار إلا لأجل حجاب، وذلك الحجاب ليس إلا الاشتغال بغير الله تعالى. فإذا كان الأمر كذلك، فبقدر ما يزول ذلك الحجاب، يحصل هذا التجلّي. فقول إبراهيم عليه الصلاة والسلام: { أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً } إشارة إلى تقبيح الاشتغال بعبادة غير الله تعالى؛ لأن كل ما سوى الله فهو حجاب عن الله تعالى، فلما زال ذلك الحجاب، لا جرم تجلّى له ملكوت السماوات بالتمام. فقوله: { وَكَذَلِكَ نُرِيۤ إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ } معناه: وبعد زوال الاشتغال بغير الله حصل له نورٌ تجلى جلال الله تعالى، فكان قوله: { وَكَذَلِكَ } منشأ لهذه الفائدة الشريفة الروحانية.

الثانية: قال الرازي: اليقين عبارة عن علم يحصل بعد زوال الشبهة بسبب التأمل. ولهذا المعنى لا يوصف علم الله تعالى بكونه يقيناً؛ لأن علمه غير مسبوق بالشبهة، وغير مستفاد من الفكر والتأمل. واعلم أن الإنسان في أول ما يستدل به، فإنه لا ينفك قلبه عن شك وشبهة من بعض الوجوه، فإذا كثرت الدلائل وتوافقت وتطابقت، صارت سبباً لحصول اليقين. وذلك لوجوه:

الأول: أنه يحصل لكل واحد من تلك الدلائل نوع تأثر وقوة، فلا تزال القوة تتزايد حتى تنتهي إلى الجزم.

الثاني: أن كثرة الأفعال سبب لحصول الملكة. فكثرة الاستدلال بالدلائل المختلفة على المدلول الواحد، جارٍ مجرى تكرار الدرس الواحد. فكما أن كثرة التكرار تفيد الحفظ المتأكد الذي لا يزول عن القلب، فكذا ههنا.

الثالث: أن القلب عند الاستدلال كان مظلماً جداً فإذا حصل فيه الاعتقاد المستفاد من الدليل الأول، امتزج نور ذلك الاستدلال بظلمة سائر الصفات الحاصلة في القلب، فحصل فيه حالة شبيهة بالحالة الممتزجة من النور والظلمة، فإذا حصل الاستدلال الثاني امتزج نوره بالحالة الأولى، فيصير الإشراق واللمعان أتم.

السابقالتالي
2