الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ قُلِ ٱللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ }

ثم أمره تعالى بالجواب تنبيهاً على ظهوره وتعينه عندهم، أو إهانة لهم إذ لا يلتفتون لخطابه بقوله: { قُلِ ٱللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ } أي: من غير شفاعة أحد ولا عون، { ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ } أي: ثم أنتم بعد ما تشاهدون من النجاة عنها، الموعود فيها بالشكر وعداً وثيقاً بالقَسَم، تشركون، بعبادته والثناء عليه، غيرَه. وتنسبون النجاة الحاصلة بعد تخصيصه بالدعوة، إلى شفاعة الشريك، فقد جعلتم الشرك مكان الشكر.

تنبيهات

الأول: ما قدمناه من أن ظلماتٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ } [الأنعام: 63] مجاز عن مخاوفها وأهوالها، وهو ما قاله المحققون.

قال الرازيّ: ومنهم من حمله على حقيقته فقال: أما ظلمات البحر، فهي أن تجتمع ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة السحاب، ويضاف الرياح الصعبة، والأمواج الهائلة إليها، فلم يعرفوا كيفية الخلاص، وعَظُمَ الخوفُ. وأما ظلمات البر، فهي ظلمة الليل، وظلمة السحاب، والخوف الشديد من هجوم الأعداء والخوف الشديد من عدم الاهتداء إلى طريق الصواب. والمقصود: أن عند اجتماع هذه الأسباب الموجبة للخوف الشديد، لا يرجع الإنسان إلا إلى الله تعالى. وهذا الرجوع يحصل ظاهراً وباطناً؛ لأن الإنسان في هذه الحالة يعظم إخلاصه في حضرة الله تعالى، وينقطع رجاؤه عن كل ما سوى الله تعالى. وهو المراد من قوله:تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } [الأنعام: 63]. فبين تعالى أنه إذا شهدت الفطرة السليمة، والخلقة الأصلية في هذه الحالة، بأنه لا ملجأ إلا الله، ولا تعويل إلا على فضل الله، وجب أن يبقى هذا الإخلاص عند كل الأحوال والأوقات. ولكنه ليس كذلك، فإن الإنسان بعد الفوز بالسلامة والنجاة، يحيل تلك السلامة إلى الأسباب، ويقدم على الشرك. ومن المفسرين من يقول: المقصود من هذه الآية: الطعن في إلهية الأصنام والأوثان.

ثم قال الرازيّ رحمه الله: وأنا أقول: التعلق بشيء مما سوى الله في طريق العبودية، يقرب من أن يكون تعلقاً بالوثن؛ ولذلك فإن أهل التحقيق يسمونه بالشرك الخفيّ. انتهى.

الثاني: قال بعض المفسرين: دل قوله تعالى:تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } [الأنعام: 63] على أن دعاء السرّ أفضل. قيل: وكان جهر النبيّ صلى الله عليه وسلم بالدعاء ليعلّم غيره. انتهى.

وهذا بناء على أن قوله تعالى:تَضَرُّعاً } [الأنعام: 63]: تذللا، لا جهرا. وكثير من المفسرين ذهب إلى أن المعنى جهراً وسراً، ولعله الصواب. فإن العيان يؤيده، إذ لا يتمالك من اشتد عليه الأمر، وأظلم عليه طريق الخلاص، على الاقتصار على دعاء السر وحده -والله أعلم -.

وفي القاموس وشرحه: تضرع إلى الله تعالى، أي: ابتهل وتذلل. وقيل: أظهر الضراعة، وهي شدة الفقر والحاجة إلى الله تعالى. ومنه قوله تعالى:تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } [الأنعام: 63] أي: مظهرين الضراعة، وحقيقة الخشوع. انتهى.

الثالث: المراد بالكرب ما يعم ما تقدم، ولا محذور في التعميم بعد التخصيص، لكثرة وروده.

السابقالتالي
2