الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَهُوَ ٱلَّذِي يَتَوَفَّٰكُم بِٱلَّيلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِٱلنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }

{ وَهُوَ ٱلَّذِي يَتَوَفَّٰكُم بِٱلَّيلِ } أي: ينيمكم فيه. استعير (التوفي) من الموت للنوم، لما بينهما من المشاركة في زوال الإحساس والتمييز، فإن أصله قبض الشيء بتمامه.

{ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِٱلنَّهَارِ } أي: فيه. وتخصيص الليل بالنوم، والنهار بالكسب، جرياً على المعتاد. { ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ } أي: يوقظكم. أطلق البعث ترشيحاً للتوفي { فِيهِ } أي: في النهار، { لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مُّسَمًّى } أي: ليتم مقدار حياة كل أحد.

{ ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ } أي: رجوعكم بالبعث بعد الموت، { ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي: في ليلكم ونهاركم، بالمجازاة عليه، مبالغة في عدله.

تنبيهان

الأول: ظاهر الخطاب في الآية على العموم. وخصه في (الكشاف) بالكفرة، ذهاباً إلى أن قوله: { وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِٱلنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ } يدل على تهديد شديد، لا يليق إلا بالمعاندين الجاحدين، وأن المقصود بيان حالهم المذمومة في الليل. كما أن قوله: { مَا جَرَحْتُم } بيان حالهم المذمومة في النهار. وحمل (البعث) لا على الإيقاظ، بل على البعث من القبور. و (فيه) بمعنى (من أجله) كقولك: فيم دعوتني؟ فتقول: في أمر كذا. والمعنى: أنكم ملقَوْن كالجيف بالليل كاسبون للآثام بالنهار. وأنه تعالى مطلع على أعمالكم، يبعثكم من القبور في شأن ما قطعتم به أعماركم، من النوم بالليل، وكسب الآثام بالنهار، ليقضي الأجل الذي سماه وضربه لبعث الموتى، وجزائهم على أعمالهم. والذي حمله على ذلك، زعمه أن قوله: { وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِٱلنَّهَارِ } دالّ على حال اليقظة، وكسبهم فيها. وكلمة (ثم) تقتضي تأخير البعث عنها.

قال شراحه: ولا يخفى ما فيه من التكلف، وأنه لا حاجة إليه؛ لأن قوله: { وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِٱلنَّهَارِ } إشارة إلى ما كسب في النهار السابق على ذلك الليل، ولا دلالة فيه على الإيقاظ من هذا التوفي، وأن الإيقاظ متأخر عن التوفي. وإن قولنا: (يفعل ذلك التوفي لنقضي مدة الحياة المقدرة) كلام منظم غاية الانتظام.

الثاني: قال الشريف المرتضي في (الدرر والغرر) فيما وقع من القرآن من ذكر الرجوع إلى الله نحو " إليه ترجع الأمور ": كيف ترجع إليه، وهي لم تخرج من يده؟ وأجاب: بأنه في دار التكليف قد يغيّر البعض، فيضيف بعض أفعاله تعالى إلى غيره، فإذا انكشف الغطاء، انقطعت حبال الآمال عن غيره، فيرجع إليه. أو أن المراد أن الأمور في يده من غير خروج ورجوع حقيقيّ. فـ (رجع) بمعنى: (صار). تقول العرب: رجع عليّ من فلان مكروه، بمعنى صار، ولم يكن سبق. فهو بمعنى: المصير إليه، كما تشهد به اللغة. أو أنه في دار الدنيا ما يكون للعباد ظاهراً كالعبد لسيده، فإذا أفضى الأمر إلى الآخرة، زال ذلك، ورجع الأمر كله إلى الله، ظاهراً وباطناً.