الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ قَدْ خَسِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ ٱللَّهِ حَتَّىٰ إِذَا جَآءَتْهُمُ ٱلسَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يٰحَسْرَتَنَا عَلَىٰ مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَىٰ ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ }

{ قَدْ خَسِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ ٱللَّهِ } أي: ببلوغ الآخرة وما يتصل بها، أو هو مجرى على ظاهره؛ لأن منكر البعث منكر للرؤية - قاله النسفيّ -.

والثاني هو الصواب، وإن اقتصر كثيرون على الأول، وجعلوه استعارة تمثيلية لحالهم بحال عبدٍ قدم على سيده بعد مدة، وقد اطّلع السيد على أحواله. فإما أن يلقاه ببشر لما يرضى من أفعاله، أو يسخط لما يسخط منها - فإنه نزغة اعتزالية. ولا عدول إلى المجاز ما أمكنت الحقيقة.

وفي كلام النسفيّ إشعار بأن اللقاء معناه: الرؤية، وهو ما في القاموس. قال شارحه الزبيديّ: وهو مما نقدوه، وأطالوا فيه البحث، ومنعوه. وقالوا: لا يلزم من الرؤية اللقيّ، كالعكس.

وقال الراغب: هو مقابلة الشيء ومصادفته معاً، ويعبّر عنه كل منهما. ويقال ذلك في الإدراك بالحسّ والبصر.

لطيفة:

قال الخفاجيّ في (العناية): قيل: روي عن عليّ رضي الله عنه أنه نظم أبياتاً على وفق هذه الآية، وفي معناها وهي:
زعم المنجمُ والطبيبُ، كلاهما   لا تُحْشَرُ الأجساد. قلتُ: إليكما
إن صحّ قولكما فلست بخاسر.   أو صحّ قولي، فالخسار عليكما
قال الخفاجيّ: لا أدري من أيهما أعجب؟ الرواية أم الدراية؟ فإن هذا الشعر لأبي العلاء المعرّي في ديوانه وهو:
قال المنجمُ والطبيبُ، كلاهما:   لا تُحشَرُ الأَجْسَادُ، قلت: إليْكما
إن صحّ قولُكما فلستُ بخاسرٍ   أو صحّ قولي، فالخسارُ عليْكما
أضحى التَُّقَى والشرُّ يصطرعان في الدّ   نيا، فأيهما أبَرّ لديْكما
طهرّت ثوبي للصلاةِ وقبلَه   جسدي، فأين الطهرُ من جسديْكما
وذكرتُ ربي في الضمائرِ مؤنِساً   خَلَدي بذاكَ، فَأوْحِشا خَلدَيكما
وبكرت في البَرْديّن أبغي رحمة   منه، ولا تَرِعَانِ في بَردَيْكما
إن لم تَعُد بيدي منافعُ بالذي   آتى، فهلْ مِنْ عائدٍ بيديكما
بُرْدُ التقيّ، وإن تهلل نسجُه   خير، بعلمٍ الله، من بُرْديْكما
قال ابن السيد في (شرحه): هذا منظوم مما روي عن عليّ رضي الله عنه؛ أنه قال لبعض من تشكك في البعث والآخرة: إن كان الأمر كما تقول من أنه لا قيامة، فقد تخلصنا جميعاً. وإن لم يكن الأمر كما تقول، فقد تخلصنا وهلكتَ. فذكروا أنه ألزمه فرجع عن اعتقاده. وهذا الكلام، وإن خرج مخرج الشك، فإنما هو تقرير للمخاطب على خطابه، وقلةِ أخذه بالنظر والاحتياط لنفسه. مع أن المناظر علي ثقة من أمره، وهو نوع من أنواع الجدل.

وقوله: (إلَيْكُمَا) كلمة يراد بها الردع والزجر. ومعناها: كُفَّا عما تقولان، وحقيقته: قولكما مصروف لكما، لا حاجة لي به. انتهى.

ومن له معرفة بقرض الشعر، يعلم أنه شعر مولد.

ثم نبه الخفاجيّ على أن هذا النوع يسمى استدراجاً. قال في (المثل السائر): الاستدراج نوع من البالغة استخرجتُه من كتاب الله تعالى، وهو مخادعات الأقوال التي تقوم مقام مخادعات الأفعال، يستدرج الخصم حتى ينقاد ويذعن، وهو قريب من المغالطة، وليس منها.

السابقالتالي
2 3