الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ قُلْ فَلِلَّهِ ٱلْحُجَّةُ ٱلْبَالِغَةُ فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ }

{ قُلْ فَلِلَّهِ ٱلْحُجَّةُ ٱلْبَالِغَةُ } البيّنة الواضحة التي بلغت غاية المتانة والقوة على الإثبات ومنه: (أيمان بالغة) أي: مؤكدة. أو (البالغة) التي بلغ بها صاحبها صحة دعواه فهي (كعيشة راضية). { فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } أي: ولكنه لم يشأ ذلك. بل شاء هدايةَ بعضٍ صرفوا اختيارهم إلى سلوك طريق الحقّ. وضلالَ آخرين صرفوا كسبهم إلى خلاف ذلك, من غير صارفٍ يلويهم ولا عاطفٍ يثنيهم, فوقع ذلك على الوجه الذي شاءه.

قال الإمام أبو منصور الماتريديّ في (تأويلاته): قيل: الآية في مشركي العرب. قالوا ذلك حين لزمتهم المناقضة وانقطع حجاجهم في تحريم ما حرّموا من الأشياء. وأضافوا ذلك إلى الله, وهو صلة قوله:ثَمَٰنِيَةَ أَزْوَٰجٍ... } [الأنعام: 143] - إلى قوله -:أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ وَصَّٰكُمُ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا } [الأنعام: 144]، فلما لزمتهم المناقضة وانقطع حجاجهم فزعوا إلى هذا القول:لَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا... } [الأنعام: 148] الآية. انتهى.

والقصد: الاعتذار عن كل ما يقدمون عليه من الإشراك وتحريم الحلال. أي: ولكنه لم يشأ الترك وشاء الفعل, ففعلُنا طوع مشيئته, وهو لا يشأ إلا الحق, لأنه قادر. فلو لم يكن حقاً يرضاه لمنعنا منه. وهو لم يمنعنا منه فهو حقّ، وفي حكاية هذه المناظرة والمجادلة بيان لنوع من كفرهم شنيع جداً.

تنبيه

هذه الآية تكرر نظيرها في التنزيل الكريم في عدة سور, وهي من الآيات الجديرة بالتدبر لتمحيص الحق في المراد منها.

فقد زعم المعتزلة أن فيها دلالة واضحة لمذهبهم من أن الله لا يشاء المعاصي والكفر, كما تبجح بذلك منهم الطبرسيّ الشيعيّ في (تفسيره) وقال: إن فيها تكذيباً ظاهراً لمن أضاف مشيئة ذلك إلى الله سبحانه؛ وكذا الزمخشريّ في (تفسيره).

ومعلوم أن عقيدة الفرقة الناجية, الإيمانُ بأن: ما شاء الله كان, وما لم يشأ لم يكن, وأنه ما في السماوات والأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله سبحانه, لا يكون في ملكه إلا ما يريد, وهو خالق لأفعال العباد!

وقد خالف في ذلك عامة القدرية - الذين سمّاهم النبيّ صلى الله عليه وسلم مجوس هذه الأمة - فقالوا: لا إرادة إلا بمعنى المشيئة, وهو لم يرد إلا ما أمر به, ولم يخلق شيئاً من أفعال العباد. فعندهم أكثر ما يقع من أفعال العباد على خلاف إرادته تعالى. ولما كان قولهم هذا في غاية الشناعة، تبرأ منهم الصحابة. وأصل بدعتهم - كما قال ابن تيمية - كانت من عجز عقولهم عن الإيمان بقدر الله والإيمان بأمره ونهيه. وسنبيّن تحقيق ذلك بعد أن نورد شبهتهم في هذه الآية وندمغها - بعونه تعالى - بعدة وجوه فنقول:

قالوا: إن الله تعالى حكى عن المشركين أنهم قالوا: أشركنا بإرادة الله تعالى.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد