الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ ٱلْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَٰتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَٰنَهُ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يَصِفُونَ }

{ وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ ٱلْجِنَّ } أي: جعلوهم شركاء له في العبادة. فإن قيل: فكيف عُبِدت الجن مع أنهم إنما كانوا يعبدون الأصنام؟ فالجواب: أنهم ما عبدوها إلا عن طاعة الجن، وأمرهم بذلك. كقوله:إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَٰثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَٰناً مَّرِيداً* لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً * وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ ءَاذَانَ ٱلأَنْعَٰمِ وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ ٱللَّهِ وَمَن يَتَّخِذِ ٱلشَّيْطَٰنَ وَلِيّاً مِّن دُونِ ٱللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً } [النساء: 117-119]، وكقوله تعالى:أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي... } [الكهف: 50] الآية، وقال إبراهيم لأبيه:يٰأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ ٱلشَّيْطَانَ إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ عَصِيّاً } [مريم: 44]، وكقوله:أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يٰبَنِيۤ ءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ ٱلشَّيطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنِ ٱعْبُدُونِي هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } [يس: 60-61] وتقول الملائكة يوم القيامة:سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ ٱلْجِنَّ أَكْـثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ } [سبأ: 41].

{ وَخَلَقَهُمْ } حال من فاعل (جَعَلُوا)، مؤكدة لما في جَعْلِهِم، ذلك من كمال القباحة والبطلان، باعتبار علمهم بمضمونها. أي: وقد علموا أن الله خلقهم دون الجن (وليس من يخلق كمن لا يخلق)! وقيل: الضمير للشركاء. أي: والحال أنه تعالى خلق الجن، فكيف يجعلون مخلوقه شريكاً له؟ كقول إبراهيم:قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } [الصافات: 95-96]. أي: وإذا كان هو المستقل بالخالقية، وجب أن يفرد بالعبادة، وحده لا شريك له.

تنبيه

ما ذكرناه من معنى قوله تعالى: { وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ ٱلْجِنَّ } أنهم أطاعوا الجن في عبادة الأوثان، هو ما قرره ابن كثير، وأيده بالنظائر المتقدمة، ونقل عن الحسن، فتكون الكناية لمشركي العرب.

وقيل: المراد بالجن: الملائكة، فإنهم عبدوهم وقالوا عنهم بنات الله. وكلا الأمرين موجب للشريك. أما الأول فظاهر. وأما الثاني فلأن الولد كفء الوالد، فيشاركه في صفات الألوهية. وتسمية الملائكة (جناً) حقيقة، لشمول لفظ الجن لهم. وقيل: استعارة أي: عبدوا ما هو كالجن، فيكون مخلوقاً مستتراً عن الأعين.

وذهب بعض السلف - منهم الكلبيّ - إلى أنها نزلت في الثنوية القائلين بأن للعالم إلهين: أحدهما: خالق الخير وكل نافع. وثانيهما: خالق الشر وكل ضار. ونقله ابن الجوزيّ عن ابن السائب. وحكاه الفخر عن ابن عباس رضي الله عنه، وأنه قال: نزلت في الزنادقة الذين قالوا: إن الله وإبليس أخَوَانِ. فالله تعالى خالق الناس والدواب والأنعام والخيرات؛ وإبليس خالق السباع والحيات والعقارب والشرور.

قال الرازيّ: وقول ابن عباس المذكور أحسن الوجوه المذكورة في هذه الآية، وذلك لأن بهذا الوجه يحصل لهذه الآية مزيد فائدة مغايرة لما سبق ذكره في الآيات المتقدمة.

وقوّى ابن عباس قوله المذكور بقوله تعالى:وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ٱلْجِنَّةِ نَسَباً } [الصافات: 158] وإنما وصف بكونه من الجن؛ لأن لفظ الجن مشتق من الاستتار، والملائكة والروحانيون مستترة من العيون، فلذلك أطلق لفظ الجن عليها.

السابقالتالي
2