الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَٰتِ وَٱلنُّورَ ثْمَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ }

{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ } أي: جميع المحامد، بما حمد به نفسه أو خلقه، أو حمد به الخلقُ ربهم، أو بعضهم، مخصوص به. ثم أخبر عن قدرته الكاملة، الموجبة لاستحقاقه لجميع المحامد بقوله: { ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ } خصهما بالذكر، لأنهما أعظم المخلوقات، فيما يرى العباد، وفيهما العبر والمنافع؛ لأن السماوات بأوضاعها وحركاتها أسباب الكائنات والفاسدات التي هي مظاهر الكمالات الإلهية. والأرض مشتملة على قوابل الكون والفساد التي هي المسببات.

{ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَٰتِ وَٱلنُّورَ } أي: أوجدهما منفعة لعباده، في ليلهم. ونهارهم. وههنا:

لطائف

الأولى: أن المقصود من الآية: التنبيه على أن المنعم بهذه النعم الجسام هو الحقيق بالحمد والعبادة، دون ما سواه.

الثانية: لفظ جعل يتعدى إلى واحد إذا كان بمعنى أحدث وأنشأ، كما هنا؛ وإلى مفعولين إذا كان بمعنى صيَّر كقوله:وَجَعَلُواْ ٱلْمَلاَئِكَةَ ٱلَّذِينَ هُمْ عِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ إِنَاثاً } [الزخرف: 19]. والفرق بين الخلق والجعل: أن الخلق فيه معنى التقدير، وفي الجعل معنى التضمين، كإنشاء شيء من شيء أو تصيير شيء شيئاً، أو نقله من مكان إلى مكان. ومن ذلك:وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } [الأعراف: 189]،أَجَعَلَ ٱلآلِهَةَ إِلَـٰهاً وَاحِداً } [ص: 5]، وإنما حسن لفظ (الجعل) ههنا، لأن النور والظلمة لما تعاقبا، صار كأن كل واحد منهما إنما تولد من الآخر - قاله الرازيّ - وسبقه إليه الزمخشري.

قال الناصر في (الانتصاف): وقد وردت (جَعَلَ) و (خَلَقَ) مورداً واحداً. فورد:وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } [النساء: 1]، وورد:وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } [الأعراف: 189]، وذلك ظاهر في الترادف. إلا أن للخاطر ميلاً إلى الفرق الذي أبداه الزمخشريّ. ويؤيده أن (جَعَلَ) لم يصحب السماوات والأرض، وإنما لزمتهما (خَلَقَ). وفي إضافة (الخلق) في هذه الآية إلى السماوات والأرض، و (الجعل) إلى الظلمات والنور، مصداق للمميز بينهما - والله أعلم -.

الثالثة: إن قيل: لم جمعت السماوات دون الأرض مع أنها مثلهن؟ لقوله تعالى:وَمِنَ ٱلأَرْضِ مِثْلَهُنَّ } [الطلاق: 12]، وفي الحديث: " " هل تدرون ما هذه؟ " قالوا: هذه أرض. قال: " هل تدرون ما تحتها؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم! قال: " أرض أخرى، وبينهما مسير خمسمائة عام " حتى عدّ سبع أرضين، بين كل أرضين مسيرة خمسمائة عام " - أخرجه الترمذي، وأبو الشيخ عن أبي هريرة رضي الله عنه.

فالجواب: لأن السماوات طبقات متفاضلة بالذات، مختلفة بالحقيقة، بخلاف الأرضين - كما قاله البيضاوي -.

وقال الرازي: إن السماء جارية مجرى الفاعل. والأرض مجرى القابل. فلو كانت السماء واحدة لَتَشَابَهَ الأثر، وذلك يخلّ بمصالح هذا العالم. أما لو كانت كثيرة اختلفت الاتصالات الكوكبية، فحصل بسببها الفصول الأربعة، وسائر الأحوال المختلفة، وحصل بسبب تلك الاختلافات مصالح هذا العالم. أما الأرض فهي قابلة للأثر، والقابل الواحد كاف في القبول.

السابقالتالي
2 3