الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }

{ هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } قال القاشانيّ: أي من الأيام الإلهية، وقيل: المعهودة - والله أعلم. { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } قال ابن جرير: أي هو الذي أنشأ السماوات السبع والأرضين، فدبّرهن وما فيهن، ثم استوى على عرشه، فارتفع عليه وعلا.

{ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي ٱلأَرْضِ } أي: من خلقه كالأموات والبذور والحيوانات { وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا } أي: كالزروع { وَمَا يَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ } أي: من الأمطار والثلوج والبرد والأقدار والأحكام { وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } أي: من الملائكة والأعمال وغيرهما. { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ } قال ابن جرير: أي وهو شاهد لكم، أينما كنتم، يعلَمكم ويعلَم أعمالكم ومتقلبكم ومثواكم، وهو على عرشه فوق سماواته السبع.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في (شرح حديث النزول): لفظ المعية في سورة الحديد والمجادلة، في آيتيهما، ثبت تفسيره عن السلف بالعلم. قالوا: هو معهم بعلمه. وقد ذكر الإمام ابن عبد البر وغيره؛ أن هذا إجماع من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولم يخالفهم أحد يعتدّ بقوله. وهو مأثور عن ابن عباس والضحاك ومقاتل بن حيان وسفيان الثوريّ وأحمد بن حنبل وغيرهم. قال ابن أبي حاتم عن ابن عباس في هذه الآية: هو على العرش وعلمه معهم، وهكذا عمن ذكر معه. وقد بسط الإمام أحمد الكلام على المعية في (الرد على الجهمية). ولفظ المعية في كتاب الله جاء عاماً كما في هاتين الآيتين، وجاء خاصاً كما في قوله تعالى:إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ } [النحل: 128] وقوله:إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وَأَرَىٰ } [طه: 46] وقوله:لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا } [التوبة: 40] فلو كان المراد بذاته مع كل شيء، لكان التعميم يناقض التخصيص، فإنه قد علم أن قوله:لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا } [التوبة: 40] أراد به تخصيصه وأبا بكر، دون عدوّهم من الكفار. وكذلك قولهإِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ } [النحل: 128] خصهم بذلك دون الظالمين والفجار. وأيضاً، فلفظ المعية، ليست في لغة العرب، ولا شيء من القرآن، أن يراد بها اختلاط إحدى الذاتين بالأخرى، كما في قوله:مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ } [الفتح: 29] وقوله:فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [النساء: 146] وقوله:ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّادِقِينَ } [التوبة: 119] وقوله:وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ } [الأنفال: 75] ومثل هذا كثير. فامتنع أن يكون قوله: { وَهُوَ مَعَكُمْ } [الحديد: 4] يدل على أن ذاته مختلطة بذوات الخلق. وأيضاً، فإنه افتتح الآية بالعلم، وختمها بالعلم، فكان السياق يدل على أنه أراد أنه عالم به. وقد بُسِط الكلام عليه في موضع آخر، وبيّن أن لفظ المعية في اللغة، وإن اقتضى المجامعة والمصاحبة والمقاربة، فهو إذا كان مع العباد، لم يناف ذلك علوّه على عرشه، ويكون حكم معيته في كل موطن بحسبه.

السابقالتالي
2