الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِٱلْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا ٱلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِٱلْغَيْبِ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ }

{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِٱلْبَيِّنَاتِ } أي: بالحجج والبراهين القاطعة على صحة ما يدعون إليه { وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ٱلْكِتَابَ } أي: التامّ في الحكم والأحكام { وَٱلْمِيزَانَ } أي: العدل - قاله مجاهد وقتادة وغيرهما - قال ابن كثير: وهو الحق الذي تشهد به العقول الصحيحة المستقيمة، المخالفة للآراء السقيمة { لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلْقِسْطِ } أي: بالحق والعدل، وهو إتباع الرسل فيما أمروا به، وتصديقهم فيما أخبروا عنه. فإن الذي جاؤوا به هو الحق الذي ليس وراءه حق، كما قال:وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً } [الأنعام: 115] أي: صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأوامر والنواهي؛ ولهذا يقول المؤمنون إذا تبوأوا غرف الجناتٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي هَدَانَا لِهَـٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاۤ أَنْ هَدَانَا ٱللَّهُ لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلْحَقِّ } [الأعراف: 43].

{ وَأَنزَلْنَا ٱلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } يعني: القتال به، فإن آلات الحروب متخذة منه { وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } أي: في مصالحهم ومعايشهم، فما من صناعة إلا وللحديد يدٌ فيها.

فإن قيل: الجمل المتعاطفة لابد فيها من المناسبة، وأين هي في إنزال الحديد مع ما قبله؟

فالجواب: أن بينهما مناسبة تامة؛ لأن المقصود ذكر ما يتم به انتظام أمور العالم في الدنيا، حتى ينالوا السعادة في الأخرى، ومن هداه الله من الخواص العقلاء ينتظم حاله في الدارين بالكتب والشرائع المطهرة. ومن أطاعهم وقلدهم من العامة بإجراء قوانين الشرع العادلة بينهم. ومن تمرد وطغا وقسا يضرب بالحديد، الرادّ لكل مريد. وإلى الأولين أشار بقوله: { وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْمِيزَانَ } فجمعهم وأتباعهم في جملة واحدة. وإلى الثالث أشار بقوله: { وَأَنزَلْنَا ٱلْحَدِيدَ } فكأنه قال: أنزلنا ما يهتدي به الخواصّ، وما يهتدي به أتباعهم، وما يهتدي به من لم يتبعهم، فهي حينئذ معطوفة، لا معترضة لتقوية الكلام كما توهم، إذ لا داعي له، وليس في الكلام ما يقتضيه، بل فيه ما ينافيه.

قال العتبيّ في أول (تاريخه): كان يختلج في صدري أن في الجمع بين الكتاب والميزان والحديد تنافراً، وسألت عنه فلم أحصل على ما يزيح العلة وينقع الغلة، حتى أعملت التفكر، فوجدت { ٱلْكِتَابَ } قانون الشريعة، ودستور الأحكام الدينية، يتضمن جوامع الأحكام والحدود، وقد حظر فيه التعادي والتظالم، ودفع التباغي والتخاصم، وأمر بالتناصف والتعادل، ولم يكن يتم إلا بهذه الآلة، فلذا جمع { ٱلْكِتَابَ وَٱلْمِيزَانَ } وإنما تحفظه العامة على اتباعها بالسيف، وجذوة عقابه، وعذب عذابه، وهو { ٱلْحَدِيدَ } الذي وصفه الله بالبأس الشديد. فجمع بالقول الوجيز، معاني كثيرة الشعوب، متدانية الجنوب، محكمة المطالع، مقومة المباديء والمقاطع - نقله الشهاب.

وأوّل القاشانيّ (البينات) بالمعارف والحكم، و { ٱلْكِتَابَ } بالكتابة، و { وَٱلْمِيزَانَ } بالعدل، لأنه آلته، و { ٱلْحَدِيدَ } بالسيف؛ لأنه مادته. قال: وهي الأمور التي بها يتم الكمال النوعيّ، وينضبط النظام الكليّ، المؤدي إلى صلاح المعاش والمعاد، إذ الأصل المعتبر والمبدأ الأول، وهو العلم والحكمة.

السابقالتالي
2 3