الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } * { آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ } * { كَانُواْ قَلِيلاً مِّن ٱللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } * { وَبِٱلأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } * { وَفِيۤ أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ }

{ إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ } أي: الذين اتقوا الله بطاعته، واجتنابِ معاصيه في الدنيا، وبتجنب القول بالخرص والتخمين في الأمور الاعتقادية. { فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ } قال ابن جرير: أي: عاملين ما أمرهم به ربهم، مؤدين فرائضه. وقال غيره: أي: قابلين لما أعطاهم من النعيم الأخرويّ، راضين به.

وهذا هو الوجه. ولذا قال ابن كثير: والذي فسر به ابن جرير فيه نظر؛ لأن قوله تبارك وتعالى: { آخِذِينَ } حال من قوله: { فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } فالمتقون في حال كونهم في الجنات والعيون، آخذين ما آتاهم ربهم، أي: من النعيم والسرور والغبطة.

ثم أشار إلى سر استحقاقهم لذلك بقوله: { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ } يعني: في الدنيا { مُحْسِنِينَ } أي: قد أحسنوا أعمالهم لغلبة محبة الله على قلوبهم، بظهور آثارها في أفعالهم وأقوالهم، كما بينه بقوله سبحانه: { كَانُواْ قَلِيلاً مِّن ٱللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } أي: كانوا يهجعون هجوعاً قليلاً؛ لتقوى نفوسهم على عبادته تعالى، بنشاط.

روى ابن جرير عن أنس في الآية؛ أنهم كانوا يصلّون ما بين هاتين الصلاتين، ما بين المغرب والعشاء.

وعن محمد بن عليّ: كانوا لا ينامون حتى يصلّوا العتمة.

وعن مطرِّف: قلَّ ليلة أتت عليهم، إلا صلوا فيها من أولها أو من وسطها.

وعن الحسن قال: لا ينامون من الليل. إلا أقله، كابدوا قيام الليل.

وقرأ الأحنف بن قيس هذه الآية فقال: لست من أهل هذه الآية.

وعن الضحاك: أن الوقف على قوله تعالى: { كَانُواْ قَلِيلاً } أي: أن المحسنين كانوا قليلاً، ثم ابتدئ فقيل: { مِّن ٱللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } و (ما) نافية أي: لا يهجعون.

قال ابن كثير: هذا القول فيه بعد وتعسف.

لطيفة

في هذه الجملة الكريمة مبالغات في وصف هؤلاء بقلة النوم، وترك الاستراحة، وذلك ذكر القليل. والليل الذي هو وقت النوم، والهجوع الذي هو الخفيف من النوم، وزيادة (ما) لأنها تدل على القلة. وبالجملة، ففي الآية استحباب قيام الليل، وذم نومه كله، والأحاديث على ذلك كثيرة شهيرة { وَبِٱلأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } قال القاضي: أي: أنهم مع قلة هجوعهم، وكثرة تهجدهم، إذا أسحروا أخذوا في الاستغفار، كأنهم أسلفوا في ليلهم الجرائم.

قال الرازيّ: في الآية إشارة إلى أنهم كانوا يتهجّدون ويجتهدون، ثم يريدون أن يكون عملهم أكثر من ذلك، وأخلص منه، فيستغفرون من التقصير، وهذا سيرة الكريم: يأتي بأبلغ وجوه الكرم ويستقله، ويعتذر من التقصير، واللئيم يأتي بالقليل ويستكثره ويمنّ به. وفيه وجه آخر ألطف منه: وهو أنه تعالى، لما بيَّن أنهم يهجعون قليلاً، والهجوع مقتضى الطبع، قال: { يَسْتَغْفِرُونَ } أي: من ذلك القدر من النوم القليل. وفيه لطيفة أخرى نبيّنها في جواب سؤال: وهو أنه تعالى مدحهم بقلة الهجوع ولم يمدحهم بكثرة السهر، وما قال: كانوا كثيراً من الليل ما يسهرون، فما الحكمة فيه؟ مع أن السهر هو الكلفة والاجتهاد، لا الهجوع؟ نقول: إشارة إلى أن نومهم عبادة، حيث مدحهم الله تعالى بكونهم هاجعين قليلاً، وذلك الهجوع أورثهم الاشتغال بعبادة أخرى، وهو الاستغفار في وجوه الأسحار، ومنعهم من الإعجاب بأنفسهم والاستكبار.

السابقالتالي
2