الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ مَا يُبَدَّلُ ٱلْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ }

{ مَا يُبَدَّلُ ٱلْقَوْلُ لَدَيَّ } قال ابن جرير: أي: ما يغير القول الذي قلته لكم في الدنيا وهو قوله:لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [السجدة: 13]، ولا قضائي الذي قضيته فيهم فيها.

{ وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } أي: فلا أعذب أحداً بذنب غيره، ولكن بذنبه بعد قيام الحجة عليه.

قال القاشانيّ: { وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ } حيث وهبت الاستعداد، وأنبأت على الكمال المناسب له وهديتكم إلى طريق اكتسابه، بل أنتم الظالمون أنفسكم باكتساب ما ينافيه، وإضاعة الاستعداد بوضع النور في الظلمة، واستبدال ما يفنى بما يبقى.

تنبيهات

الأول: ظاهر الآيات أن هذا التقاول على حقيقته؛ إذ لا مانع منها. وذهب بعض المفسرين إلى أنها مجاز.

قال القاشانيّ: هذه المقاولات كلها معنوية، مثلت على سبيل التخييل والتصوير، لاستحكام المعنى في القلب، عند ارتسام مثاله في الخيال، فادعاء الكافر الإطغاء على الشيطان، وإنكار الشيطان إياه، عبارة عن التنازع والتجاذب الواقع بين قوتيه: الوهمية والعقلية، بل بين كل اثنتين متضادتين من قواه: كالغضبية والشهوية مثلاً؛ ولهذا قال: { لاَ تَخْتَصِمُواْ } ولما كان الأمران في وجوده هما العقلية والوهمية، كان أصل التخاصم بينهما، وكذا يقع التخاصم بين كل متحاورين متخاوضين في أمر، لتوقع نفع أو لذة، يتوقفان ما دام مطلوبهما حاصلاً، فإذا حرما أوقعا بسعيهما في خسران وعذاب، تدارءا، أو نسب كل منهما التسبب في ذلك إلى الآخر، لاحتجابهما عن التوحيد، وتبرؤ كل منهما عن ذنبه لمحبة نفسه. ولذلك قال حارثة رضي الله عنه للنبيّ عليه السلام: ورأيت أهل النار يتعاورون. وصوّب عليه السلام قوله. انتهى.

الثاني: إن قلت: لم طرحت الواو من جملة { قَالَ قرِينُهُ } وذكرت في الأولى؟ قلت: لأنها استؤنفت كما تستأنف الجمل الواقعة في حكاية التقاول، كما رأيت في حكاية المقاولة بين موسى وفرعون.

فإن قلت: أين المقاولة؟ قلت: لما قال قرينة { هَـٰذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ } وتبعه قوله: { قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ } وتلاه { لاَ تَخْتَصِمُواْ } - علم أن ثَمَّ مقاولة من الكافر، لكنها طرحت للدلالة عليها من السياق كأنه لما قال القرين { هَـٰذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ } ، قال الكافر: ربِّ هو أطغاني، فلما قال الكافر ذلك، قال القرين: { مَآ أَطْغَيْتُهُ } فلما حكى قول القرين والكافر، كأن قائلاً يقول: فماذا قال الله تعالى؟ فقيل: { قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ }. وذكر الواو في الجملة الأولى لأنها أول المقاولة، ولا بد من عطفها للدلالة على الجمع بين معناها ومعنى ما قبلها في الحصول، أعني مجيء كل نفس مع الملكين، وقول قرينه ما قاله له - هذا ملخص ما في الكشاف.

الثالث: جوز قوله تعالى: { بِٱلْوَعِيدِ } أن تكون الباء زائدة في المفعول، وأن يكون حالاً من الفاعل أو المفعول، والباء للملابسة، أو المعية، والمعنى: قدمت هذا القول موعداً لكم به، أو حال كون القول ملتبساً بالوعيد، أو من { لاَ تَخْتَصِمُواْ } على تأويل تقديم الوعيد بالعلم به، أي: لا تختصموا عالمين به؛ وذلك لتصح الحالية، ويكون بينها وبين عاملها مقارنة على اصطلاحهم.

السابقالتالي
2