الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ }

{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ } أي: تحدِّث به نفسه، وهو ما يخطر بالبال. وقوله تعالى: { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ } تمثيل للقرب المعنويّ بالصورة الحسية المشاهدة، وقد جعل ذاك القرب أتم من غاية القرب الصوريّ الذي لا اتصال أشد منه في الأجسام؛ إذ لا مسافة بين الجزء المتصل به وبينه.

قال الشهاب: تجوّز بقرب الذات عن قرب العلم، لتنزّهه عن القرب المكانيّ، إما تمثيلاً، وإما من إطلاق السبب وإرادة المسبب؛ لأن القرب من الشيء سبب للعلم به وبأحواله في العادة. والمعنى: أنه تعالى أعلم بأحواله، خفيِّها وظاهرها، من كل عالم. وقد ضرب المثل في القرب بحبل الوريد؛ لأن أعضاء المرء وعروقه متصلة على طريق الجزئية، فهي أشد من اتصال ما اتصل به من الخارج؛ وخص هذا لأن به حياته، وهو بحيث يشاهده كل أحد. والحبل: العرق؛ شبه بواحد الحبال؛ فبإضافته للبيان أو لامية، من إضافة العام للخاص. فإن أبقى الحبل على حقيقته، فبإضافته كلجين الماء.

تنبيه

تأول ابن كثير الآية على غير ما تقدم، بجعل { نَحْنُ } كناية عن الملائكة، وعبارته: يعني ملائكته تعالى أقرب إلى الإنسان من حبل وريده إليه. قال: ومن تأوله على العلم، فإنما فرَّ لئلا يلزم حلول أو اتحاد، وهما منفيان بالإجماع، تعالى الله وتقدس، ولكن اللفظ لا يقتضيه؛ فإنه يقل (وأنا أقرب إليه)، وإنما قال: { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ } كما قال في المحتضر:وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَـٰكِن لاَّ تُبْصِرُونَ } [الواقعة: 85]، يعني: ملائكته. وكما قال تبارك وتعالى:إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [الحجر: 9]، فالملائكة نزلت بالذكر وهو القرآن، بإذن الله عز وجل. وكذلك الملائكة أقربُ إلى الإنسان من حبل وريده، بإقدار الله جلَّ وعَلا، لهم على ذلك. فللملَك لمَّةٌ من الإنسان، كما أن للشيطان لمَّة؛ ولذلك الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم. ثم أيد ابن كثير رحمه الله ما ذكره بما ورد في الآية بعدها. والوجه الأول أدق وأقرب، وفيه من الترهيب وتناهي سعة العلم، مع التعريف بجلالة المقام الربانيّ، ما لا يخفى حسنه. وليس تأويل مَنْ تأول بالعلم، للفرار من الحلول والاتحاد فقط، بل له ولِما تقدم أولاً، كما أن إيثار (نحن) على (أنا) لا يحسم ما نفاه؛ لاحتمال إرادة التعظيم بـ (نحن) كما هو شائع، فلا يتم له. نعم! اللفظ الكريم يحتمل ما ذكره بأن يكون ورد ذلك تعظيماً للملك؛ لأنه بأمره تعالى وبإذنه، ولكن لا ضرورة تدعو إليه، مع ما عرف من أن الأصل الحقيقة. وقد عنى رحمه الله بمن فهم الحلول والاتحاد، مَن قال في تفسير الآية كالقاشانيّ - ما مثاله: وإنما كان أقرب مع عدم المسافة بين الجزء المتصل به وبينه؛ لأن اتصال الجزء بالشيء يشهد بالبينونة والاثنينية الراجعة للاتحاد الحقيقيّ، ومعيته وقربه من عبده ليس كذلك، فإن هويته وحقيقته المندرجة في هويته وتحققه ليست غيره، بل إن وجوده المخصوص المعين إنما هو بعين حقيقته التي هي الوجود، من حيث هو وجود، ولولاه لكان عدماً صرفاً ولا شيئاً محضاً.

السابقالتالي
2 3 4 5