الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّا نَصَارَىٰ ذٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ }

{ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ } وإنما عاداهم اليهود لإيمانهم بعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم؛ وعادهم المشركون لتوحيدهم وإقرارهم بنبوة الأنبياء - أشار إليه المهايميّ -.

وقال غيره: لشدة إبائهم، وتضاعف كفرهم، وانهماكهم في اتباع الهوى، وركونهم إلى التقليد، وبعدهم عن التحقيق، وتمرنهم على التمرد والاستعصاء على الأنبياء، والاجتراء على تكذيبهم، ومناصبتهم لهم. ولهذا قتلوا كثيراً منهم حتى هموا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة، وسموه، وسحروه، وألّبوا عليه أشباههم من المشركين. وفي تقديم (اليهود) على (المشركين)، بعد لزّهما في قرَن واحد، إشعار بتقدمهم عليهم في العداوة، كما أن في تقديمهم عليهم في قوله تعالى:وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ ٱلنَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ } [البقرة: 96] إيذاناً بتقدمهم عليهم في الحرص. { وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّا نَصَارَىٰ } للين جانبهم وقلة غلّ قلوبهم.

قال ابن كثير: وما ذاك إلا لما في قلوبهم، إذ كانوا على دين المسيح، ومن الرقة والرأفة، كما قال تعالى:وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً } [الحديد: 27]، وفي كتابهم: من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر. وليس القتال مشروعاً في ملّتهم. انتهى.

ولأن من مذهب اليهود، أنه يجب إيصال الشر إلى من خالف دينهم بأي طريق كان، من القتل ونهب المال ونحوهما، وهو عند النصارى حرام. فحصل الفرق.

وقد روى ابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعاً: " ما خلا يهوديّ بمسلم إلا همّ بقتله ".

ولكثرة اهتمام النصارى بالعلم والترهب، مما يدعوا إلى قلة البغضاء والحسد، ولين العريكة، كما أشير إليه بقوله تعالى: { ذٰلِكَ } أي: كونهم أقرب مودة للمؤمنين { بِأَنَّ مِنْهُمْ } أي: بسبب أن منهم { قِسِّيسِينَ } أي: علماء { وَرُهْبَاناً } أي: عبّاداً متجردين { وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } أي: يتواضعون لوداعتهم ولا يتكبرون كاليهود. وفي الآية دليل على أن الإقبال على العلم، والإعراض عن الشهوات، والبراءة من الكبر - محمود. وإن كان ذلك من كافر.

لطيفة

قال الناصر في (الانتصاف): إنما قال تعالى: { ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّا نَصَارَىٰ } ولم يقل " النَّصَارَى " تعريضاً بصلابة اليهود في الكفر والامتناع من الامتثال للأمر؛ لأن اليهود قيل لهم:ٱدْخُلُوا ٱلأَرْضَ ٱلمُقَدَّسَةَ ٱلَّتِي كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ } [المائدة: 21]. فقابلوا ذلك بأن قالوا:فَٱذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاۤ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } [المائدة: 24]. والنصارى قالوا:نَحْنُ أَنْصَارُ ٱللَّهِ } [آل عمران: 52 والصف: 14] ومن ثم سُمَّوا نصارى. وكذلك أيضاً ورد أول هذه السورة.وَمِنَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَىٰ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ } [المائدة: 14]. فأسند ذلك إلى قولهم، والإشارة به إلى قولهم:نَحْنُ أَنْصَارُ ٱللَّهِ } [آل عمران: 52 والصف: 14] لكنه ههنا ذكر تنبيهاً على أنهم لم يثبتوا على الميثاق ولا على ما قالوه من أنهم أنصار الله. وفي الآية الثانية ذكر تنبيهاً على أنه أقرب حالاً من اليهود. لأنهم لما ورد عليهم الأمر لم يكافحوه بالردّ مكافحة اليهود. بل قالوا:نَحْنُ أَنْصَارُ ٱللَّهِ } [آل عمران: 52 والصف: 14]. واليهود قالت:فَٱذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ... } [المائدة: 24] الآية، فهذا سره. والله أعلم.