الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ مَّا ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ ٱلطَّعَامَ ٱنْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ ٱلآيَاتِ ثُمَّ ٱنْظُرْ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ }

{ مَّا ٱلْمَسِيحُ } أي: المعلوم حدوثه من كونه { ٱبْنُ مَرْيَمَ } بالخوارق الظاهرة على يديه { إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ } أي: مضت { مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ } أولو الخوارق الباهرة. فله أسوة أمثاله. كما قال تعالى:إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ } [الزخرف: 59]. أي: ما هو إلا رسول من جنس الرسل الذين خلوا قبله، جاء بآيات من الله كما أتوا بأمثالها. إن أبرأ الله الأبرص وأحيا الموتى على يده، فقد أحيا العصا وجعلها حية تسعى وفلق بها البحر على يد موسى. وهو أعجب. وإن خَلَقَهُ من غير أب، فقد خلق آدم من غير أب ولا أم. وهو أغرب منه. وفي الآية وجه آخر: أي: مضت من قبله الرسل، فهو يمضي مثلهم. فالجملة - على كل - منبئة عن اتصافه بما ينافي الألوهيّة { وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ } أي: مبالغة في الصدق. ووقع اسم الصديقة عليها لقوله تعالى:وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ } [التحريم: 12]. والوصف بذلك مشعر بالإغراق في العبودية والقيام بمراسمها. فمن أين لهم أن يصفوها بما يباين وصفها؟

تنبيه

قال ابن كثير: دلت الآية على أن مريم ليست بنبيّة. كما زعمه ابن حزم وغيره - ممن ذهب إلى نبوّة سارة أم إسحاق ونبوّة أم موسى ونبوّة أم عيسى - استدلالاً منهم بخطاب الملائكة لسارة ومريم وبقوله:وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ } [القصص: 7]. وهذا معنى النبوّة. والذي عليه الجمهور أنّ الله لم يبعث نبياً إلا من الرجال. قال الله تعالى:وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِيۤ إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ } [يوسف: 109]. وقد حكى الشيخ أبو الحسن الأشعريّ، رحمه الله، الإجماعَ على ذلك. انتهى.

فائدة

(في حقيقة الصديق والصدق)

قال العارف القاشانيّ قدس الله سرّه في (لطائف الأعلام): الصدّيق الكثير الصدق. كما يقال: سكّيت وصرّيع إذا كثر منه ذلك. والصدّيق مِن الناس: من كان كاملاً في تصديقه لما جاءت به رسل الله علماً وعملاً، قولاً وفعلاً. وليس يعلو على مقام الصديقية إلا مقام النبوّة. بحيث إن من تخطى مقام الصديقية حصل في مقام النبوّة. قال الله تعالى:أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم... } [مريم: 58] الآية. فلم يجعل تعالى بين مرتبتي النبوة والصديقية مرتبة أخرى تتخللهما. ثم بيّن قدس سره صدق الأقوال، وصدق الأفعال، وصدق الأحوال. فالأول: هو موافقة الضمير للنطق. قال الجنيد: حقيقة الصدق: أن تصدق في مواطن لا ينجيك فيه إلا الكذب. وصدق الأفعال: هو الوفاء لله بالعمل من غير مداهنة. قال المحاسبيّ: الصادق هو الذي لا يبالي لو خرج كل قَدْرٍ له في قلوب الخلق من أجل إصلاح قلبه. ولا يحب اطّلاع الناس على مثاقيل الذر من حسن عمله. ولا يكره أن يطلع الناس على السيئ من حاله؛ لأن كراهته لذلك دليل على أنه يحب الزيادة عندهم.

السابقالتالي
2