الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَحَسِبُوۤاْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ }

{ وَحَسِبُوۤاْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ } أي: ظن بنو إسرائيل أنهم لا يصيبهم من الله عذاب بقتل الأنبياء وتكذيب الرسل { فَعَمُوا وَصَمُّوا } عطف على (حسبوا)، و (الفاء) للدلالة على ترتيب ما بعدها على ما قبلها؛ أي: آمنوا بأس الله تعالى، فتمادوا في فنون الغيّ والفساد، وعموا عن الدين، بعد ما هداهم الرسل إلى معالمه الظاهرة، وصمّوا عن استماع الحق الذي أَلْقَوْهُ عليهم، ولذلك فعلوا ما فعلوا { ثُمَّ تَابَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ } أي: مما كانوا فيه.

قال العلامة أبو السعود: لم يسند التوبة إليهم كسائر أحوالهم من الحسبان والعمى والصم، تجافياً عن التصريح بنسبة الخير إليهم. وإنما أشير إليها في ضمن بيان توبته تعالى عليهم، تمهيداً لبيان نقضهم إياها بقوله تعالى:

{ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ } كرة أخرى { كَثِيرٌ مِّنْهُمْ } بدل من الضمير في الفعلين أو خبر محذوف، أي: أولئك كثير منهم { وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } أي: بما عملوا، وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية استحضاراً لصورتها الفظيعة ورعايةً للفواصل. والجملة تذييل أشير به إلى بطلان حسبانهم المذكور. ووقوع العذاب من حيث لم يحتسبوا، إشارة إجمالية، اكتفى بها تعويلاً على ما فصل نوع تفصيل في سورة (بني إسرائيل) - أفاده أبو السعود. وهو مأخوذ من كلام القفال، كما سيأتي:

تنبيه

في هذه الآية إشارة إلى ما اكتنف بني إسرائيل من الفتنة وعذاب الله الذي حاق بهم قبل عيسى وبعده. وذلك أن أنبياءهم قبل عيسى كانوا يوبخون رؤساءهم الأشرار وشعبهم على خطاياهم. ولا سيما في عبادتهم الأوثان. وينصحونهم أن يرجعوا إلى الله. وينذرونهم بعقابه تعالى الشديد ودمارهم إن لم يتوبوا. كما أنبأهم إرْميا عليه السلام بخراب بلدهم، وقضائه تعالى الهائل عليهم، إن أصرّوا على طغيانهم، فما استمعوا له. حتى روي أنه ختم له بالشهادة. إذ رجمته اليهود بمصر عتوّاً واستكباراً. ثم سلط الله عليهم بختنصر, ملك بابل، وسبى شعبهم وهدمت جنوده مدينتهم بيت المقدس وهيكلها. وصار تلال خرابٍ. وذلك لاستئصال كفرهم وشرورهم, وتطهير هيكلهم من نجاسة أوثانهم. فحلّ عليهم من البابلية الشقاء والويل. وأخذوا أسرى إلى ما وراء الفرات. ولم يترك منهم إلا الفقراء فقط. وبذلك انتهى ملكهم. وكان ذلك قبل ولادة عيسى عليه السلام بنحو خمسمائة وثمان وثمانون سنة. ثم تاب الله عليهم ورحمهم من سبيهم، وأعادهم برحمته إلى مدينتهم بيت المقدس، بعد أن أقاموا في بابل سبعين وسنة، وابتدؤوا ببناء هيكلهم ثانية. وأرجعوا العبادة إليه، وقام حزقيال عليه السلام بوعظهم وتهذيبهم ودعوتهم إلى التوبة وتذكيرهم بما مضى ليعتبروا. وهكذا كل نبيٍّ فيهم، لم يزل ينذرهم ويدعوهم إلى الله إلى أن بعث الله عيسى عليه السلام. فعموا عن الاهتداء به وصمّوا عن وعظه، وكان ما كان من همّهم بقتله.

السابقالتالي
2