الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا ٱللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي ٱلأَرْضِ فَسَاداً وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ }

{ وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ } أخرج الطبرانيّ وابن إسحاق عن ابن عباس قال: قال رجل من اليهود يقال له شاس بن قيس: إن ربك بخيلٌ لا ينفق. فنزلت.

وأخرج أبو الشيخ من وجه آخر عنه: نزلت في فنحاص، رأس يهود قينقاع؛ وتقدم أنه الذي قال: إن الله فقير ونحن أغنياء. فضربه أبو بكر الصديق رضي الله عنه.

فيكون أريد بالآية هنا، ما حكى عنه بقوله المذكور. والله أعلم.

ولما لم ينكر على القائل قومُه ورضوا به، نُسِبَتْ تلك العظيمة إلى الكل، كما يقال: بنو فلان قتلوا فلاناً، وإنما القاتل واحد منهم. و (غلّ اليد وبسطُها): مجاز مشهور عن البخل والجود. ومنه قوله تعالى:وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ } [الإسراء: 29] قالوا: والسبب فيه أن اليد آلة لأكثر الأعمال. لا سيما لدفع المال ولإنفاقه. فأطلقوا اسم السبب على المسبب. وأسندوا الجود والبخل إلى اليد والبنان والكف والأنامل. فقيل للجواد: فياض الكف، مبسوط اليد، وسبط البنان نَزِهُ الأنامل. ويقال للبخيل: كزّ الأصابع، مقبوض الكف، جعد الأنامل.

وقوله تعالى: { غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ } دعاء عليهم بالبخل أو بالفقر والمسكنة، أو بغلّ الأيدي حقيقة. يغلّون أي: تشدّ أيديهم إلى أعناقهم أسارى في الدنيا ومسحوبين إلى النار في الآخرة: { وَلُعِنُواْ } أي: أبعدوا عن الرحمة فلا يوفقون للتوبة { بِمَا قَالُواْ } من الكلمة الشنيعة التي لا تصح في حق الله حقيقة ولا مجازاً { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } أي: بأنواع العطايا المختلفة. وثنّي (اليد) مبالغة في الردّ ونفي البخل عنه تعالى، وإثباتاً لغاية الجود، فان غاية ما يبذله السخيّ من ماله أن يعطيه بيديه { يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ } تأكيد لما قبله، منبه على أن إنفاقه تابع لمشيئته, المبنية على الحِكَم, التي عليها يدور أمر المعاش والمعاد.

وَههنا مباحث

الأول: ما زعمه الزمخشريّ ومن تابعه - مِن أنّ إثبات اليد لا يصحّ حقيقة له تعالى - فإنه نزعة كلامية اعتزالية.

قال الإمام ابن عبد البرّ في (شرح الموطأ): أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القران والسنة, والإيمان بها, وحملها على الحقيقة لا على المجاز. إلا أنهم لا يكيّفون شيئاً من ذلك ولا يحدّون فيه صفة محصورة. وأما أهل البدع, الجهمية والمعتزلة كلها, والخوارج, فكلهم ينكرها ولا يحمل شيئاً منها على الحقيقة. ويزعم من أن أقرّ بها شَبَّهَ. وهم عند من أقرّ بها نافون للمعبود. والحق فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسنة رسوله. وهم أئمة الجماعة.

وقال القاضي أبو يعلى في كتاب (إبطال التأويل): لا يجوز ردّ هذه الأخبار ولا التشاغل بتأويلها. والواجب حملها على ظاهرها, وأنها صفات الله, لا تشبّه بسائر الموصوفين بها من الخلق, ولا يعتقد التشبيه فيها.

السابقالتالي
2 3 4