الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَٱحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ ٱلْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَىٰ الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ }

{ وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ } أي: الفرد الكامل الحقيق بأن يسمى كتاباً على الإطلاق. لحيازته جميع الأوصاف الكمالية لجنس الكتاب السماويّ. وتفوّقه على بقية أفراده، وهو القرآن الكريم. فاللام للعهد. أفاده أبو السعود.

{ بِٱلْحَقِّ } أي: الصدق الذي لا ريب فيه أنه من عند الله { مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلْكِتَابِ } بيان لـ (ما). واللام للجنس. يعني: أنه يصدّق جميع الكتب التي أنزلها الله على أنبيائه من قبله. وإنما قيل: " لما قَبْلَ الشيء ": هو بين يديه؛ لأن ما تأخر عنه يكون وراءه وخلفه. فما تقدم عليه يكون قدامه وبين يديه { وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ } أي: مؤتمناً عليه وشهيداً وحاكماً على ما قبله من الكتب.

قال ابن جريج: القرآن أمين على الكتب المتقدمة قبله، فما وافقه منها فهو حقّ، وما خالفه منها فهو باطل.

{ فَٱحْكُم بَيْنَهُم } أي: بين أهل الكتاب إذا ترافعوا إليك { بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ } أي: بما بيّن الله لك في القرآن.

قال في (الإكليل): هذا ناسخ للحكم بكل شرع سابق، ففيه أنّ أهل الذمة إذا ترافعوا إلينا يحكم بينهم بأحكام الإسلام، لا بمعتقدهم. ومن صور ذلك عدم ضمان الخمر ونحوه، انتهى.

{ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ ٱلْحَقِّ } نهى أن يحكم بما حرفوه أو بدَّلوه اعتماداً على قولهم. ضمَّن (ولا تَتَّبِعْ) معني (ولا تنحرف) فلذا عدي بـ (عن) فكأنه قيل: ولا تنحرف عما جاءك من الحقّ متبعاً أهواءهم. أو التقدير: عادلاً عمّا جاءك. { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً } أي: شريعة موصلة إلى الله { وَمِنْهَاجاً } أي: طريقاً واضحاً في الدين، تجرون عليه.

قال ابن كثير: هذا إخبار عن الأمم المختلفة الأديان باعتبار ما بعث الله به رسله الكرام من الشرائع المختلفة في الأحكام، المتفقة في التوحيد. كما ثبت في (صحيح البخاريّ) عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " نحن معاشر الأنبياء إخوة لعلات. ديننا واحد " يعني بذلك, التوحيدَ الذي بعث الله به كل رسول أرسله وضمنه كل كتاب أنزله. كما قال تعالى:وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِيۤ إِلَيْهِ أَنَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنَاْ فَٱعْبُدُونِ } [الأنبياء: 25]. وقال تعالى:وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجْتَنِبُواْ ٱلْطَّاغُوتَ... } [النحل: 36].

وقال أبو السعود: قوله تعالى: { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } كلام مستأنف جيء به لحمل أهل الكتابين، من معاصريه عليه الصلاة والسلام، على الانقياد لحكمه بما أنزل إليه من القرآن الكريم، ببيان أنه هو الذي كلفوا العمل به دون غيره من الكتابين، وإنما الذي كلفوا العمل بهما من مضى قبل نسخهما من الأمم السالفة. والخطاب بطريق التلوين والالتفات للناس قاطبة، لكن لا للموجودين خاصة، بل للماضين أيضاً بطريق التغليب.

السابقالتالي
2