الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ إِنَّآ أَنزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلرَّبَّانِيُّونَ وَٱلأَحْبَارُ بِمَا ٱسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ ٱللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ فَلاَ تَخْشَوُاْ ٱلنَّاسَ وَٱخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ }

{ إِنَّآ أَنزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى } أي: إرشادٌ إلى الحق { وَنُورٌ } أي: إظهار لما انْبَهَمَ من الأحكام { يَحْكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ } من بني إسرائيل { ٱلَّذِينَ أَسْلَمُواْ } أي: الذين كانوا مسلمين من لدن موسى إلى عيسى عليهم السلام. وسنذكر سرّ هذه الصفة { لِلَّذِينَ هَادُواْ } وهم اليهود. و (هاد) بمعنى: تاب ورجع إلى الحق.

قال المهايميّ: { لِلَّذِينَ هَادُواْ } أي: لا لمن يأتي بعدهم. ولم يختص بالحكم بها الأنبياء بل يحكم بها { وَٱلرَّبَّانِيُّونَ } أي: الزهّاد والعبّاد { وَٱلأَحْبَارُ } أي: العلماء الفقهاء { بِمَا ٱسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ ٱللَّهِ } أي: بسبب الذي استودعوه من كتاب الله أن يحفظوه من التغيير والتبديل وأن يقضوا بأحكامه. والضمير في { ٱسْتُحْفِظُواْ } للأنبياء والربانيين والأحبار جميعاً. ويكون الاستحفاظ من الله، أي: كلفهم حفظه. أو للربانيين والأحبار، ويكون الاستحفاظ من الأنبياء { وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ } أي: رقباء يحمونه من أن يحوم حوله التغيير والتبديل بوجه من الوجوه. أو بأنه حق وصدق من عند الله. فمعلموا اليهود وعلماؤهم الصالحون لا يفتون ولا يقضون إلا بما لم ينسخ من شريعتهم ولما لم يحرف منها، لشيوعه وتداوله وتواتر العمل به.

لطيفة

قال الزمخشري: قوله تعالى: { ٱلَّذِينَ أَسْلَمُواْ } صفة أجريت على النبيين على سبيل المدح. كالصفات الجارية على القديم سبحانه. لا للتفصلة والتوضيح. وأريد بإجرائها التعريض باليهود، وأنهم بعداء من ملة الإسلام التي هي دين الأنبياء كلهم في القديم والحديث، وأن اليهودية بمعزل منها. انتهى.

قال الناصر في (الانتصاف): وإنما بعثه على حمل هذه الصفة على المدح دون التفصلة والتوضيح، أنّ الأنبياء لا يكونون إلا متّصفين بها. فذكر النبّوة يستلزم ذكرها. فمن ثَمَّ حملها على المدح، وفيه نظر. فإن المدح إنما يكون غالباً بالصفات الخاصة التي يتميّز بها الممدوح عمن دونه. والإسلام أمر عام يتناول أمم الأنبياء ومتبعيهم كما يتناولهم. ألا ترى أنه لا يحسن في مدح النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يقتصر على كونه رجلاً مسلماً؟ فإن أقل متبعيه كذلك. فالوجه - والله أعلم - أن الصفة قد تذكر للعظم في نفسها ولينوّه بها إذا وصف لها عظيم القدر. كما يكون ثبوتها بقدر موصوفها. فالحاصل أنه كما يراد إعظام الموصوف بالصفة العظيمة قد يراد إعظام الصفة بعظم موصوفها. وعلى هذا الوصف جرى وصف الأنبياء بالصلاح في قوله تعالى:وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ } [الصافات: 112]. وأمثاله. تنويهاً بمقدار الصلاح. إذ جُعِل صفةَ الأنبياء. وبعثاً لآحاد الناس على الدأب في تحصيل صفته. وكذلك قيل في قوله تعالى:ٱلَّذِينَ يَحْمِلُونَ ٱلْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ } [غافر: 7]. فأخبر، عن الملائكة المقربين، بالإيمان، تعظيماً لقدر الإيمان وبعثاً للبشر على الدخول فيه، ليساووا الملائكة المقربين في هذه الصفة.

السابقالتالي
2 3 4 5