الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآءُوكَ فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِٱلْقِسْطِ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ }

{ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ } أي: الباطل. خبر لمحذوف. وكرر تأكيداً لما قبله وتمهيداً لقوله: { أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } أي: الحرام. وهو الرشوة كما قال ابن مسعود.

قال الزمخشريّ: السحت: كل مال لا يحل كسبه. وهو من (سَحَتَهُ) إذا استأصله. لأنه مسحوت البركة. كما قال تعالى:يَمْحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَٰواْ } [البقرة: 276]. والربا باب منه. وقرئ (السحت) بالتخفيف والتثقيل، و (السحت) بفتح السين على لفظ المصدر من (سحته)، و (السحت) بفتحتين، و (السحت) بكسر السين، وكانوا يأخذون الرشا على الأحكام وتحليل الحرام. انتهى.

وفي (اللباب): السحت كله حرام تحمل عليه شدة الشره. وهو يرجع إلى الحرام الخسيس الذي لا تكون له بركة ولا لآخذه مروءة، ويكون في حصوله عار بحيث يخفيه لا محالة. ومعلوم أن حال الرشوة كذلك، فلذلك حرمت الرشوة على الحاكم. عن أبي هريرة: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الراشي والمرتشي في الحكم " أخرجه الترمذيّ. وأخرجه أبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص.

قال ابن مسعود: الرشوة في كل شيء. فمن شفع شفاعة ليردّ بها حقّاً أو يدفع بها ظلماً. فأهدى بها إليه، فقبل، فهو سحت. فقيل له: يا أبا عبد الرحمن، ما كنا نرى ذلك إلا الأخذ على الحكم؟ فقال: الأخذ على الحكم كفر! قال الله تعالى:وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ } [المائدة: 44].

{ فَإِن جَآءُوكَ } يعني: اليهود لتحكم بينهم { فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ } لأنهم اتخذوك حكماً { أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } لأنهم لا يقصدون بتحاكمهم إليك اتباع الحقّ بل ما يوافق أهواءهم، أي: فأنت بالخيار. وقد استدل بالآية من قال: إن الإمام مخيّر في الحكم بين أهل الذمة أو الإعراض عنهم. وعن بعض السلف: إنّ التخيير المذكور نسخ بقوله تعالى:وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ } [المائدة: 49] والتحقيق أنها محكمة، والتخيير باق. وهو مرويّ عن الحسن والشعبي والنخعي والزهريّ، وبه قال أحمد. لأنه لا منافاة بين الآيتين. فإن قوله تعالى: { فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } فيه التخيير. وقوله تعالى:وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ } [المائدة: 49] فيه كيفية الحكم، إذا حكم بينهم { وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً } أي: فلن يقدروا على الإضرار بك؛ لأن الله تعالى عاصمك من الناس { وَإِنْ حَكَمْتَ فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِٱلْقِسْطِ } ، أي: بالعدل الذي أمرت به، وإن كانوا ظلمة خارجين عن طريق العدل { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ } أي: العادلين فيما وَلُوا وحكموا.

روى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنّ المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن. وكلتا يديه يمين. الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وَلُوا ".