الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ فَبَعَثَ ٱللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي ٱلأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـٰذَا ٱلْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلنَّادِمِينَ }

{ فَبَعَثَ } أي: أرسل { ٱللَّهُ غُرَاباً } فجاء { يَبْحَثُ } أي: يحفر بمنقاره ورجله متعمقاً { فِي ٱلأَرْضِ }.

قال القتيبيّ: هذا من الاختصار، ومعناه: بعث غراباً يبحث التراب على غراب ميت. وكذا رواه السدّيّ عن الصحابة؛ أنه تعالى بعث غرابين اقتتلا، فقتل أحدهما الآخر، فحفر له، ثم حثى عليه حثياً.

{ لِيُرِيَهُ } الضمير المستكن إمّا لله تعالى أو للغراب، والظاهر للقاتل أخاه { كَيْفَ يُوَارِي } أي: يستر في التراب { سَوْءَةَ أَخِيهِ } أي: جسده الميت. وسمّي سوأة؛ لأنه مما يسوء ناظره. { قَالَ يَاوَيْلَتَا } كلمة جزع وتحسّر، والألف فيها بدل من ياء المتكلم، والويل والويلة: الهَلَكَة { أَعَجَزْتُ } أي: أضعفت عن الحيلة { أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـٰذَا ٱلْغُرَابِ } أي: الذي هو أخسّ الحيوانات. والاستفهام للتعجب من عدم اهتدائه إلى ما اهتدى إليه الغراب { فَأُوَارِيَ } أي: أغطي { سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ } أي: صار { مِنَ ٱلنَّادِمِينَ } أي: على حيرته في مواراته حيث لم يدفنه حين قتله. فصار أجهل من الحيوانات العجم وأَضلّ منها وأدنى.

وفي (التنوير): ولم يكن نادماً على قتله.

وقال أبو الليث عن ابن عباس: لو كانت ندامته على قتله لكانت الندامة توبةً منه.

تنبيهات

الأول: ظاهر الآية أنه ما كان يعلم كيف يدفن المقتول، وأنه تعلم ذلك من الغراب. ولا مانع من ذلك، إذ مثله مما يجوز خفاؤه، لا سيما والعالم، في أول طور النشأة، وأنه أول قتيل، فيكون أول ميت.

ونقل الرازيّ احتمال أن يكون عالما بكيفية دفنه، قال: فإنه يبعد في الإنسان ألا يهتدي إلى هذا القدر من العمل، إلا أنه لما قتله تركه بالعراء استخفافاً به، ولما رأى الغراب يدفن الغراب الآخر، رق قلبه ولم يرض أن يكون أقل شفقة منه. فواراه تحت الأرض، والله أعلم.

الثاني: في الآية دلالة على أن الندم، إذا لم يكن لقبح المعصية، لم يكن توبة.

قال الرازيّ: ندم على قساوة قلبه وكونه دون الغراب في الرحمة. فكان ندمه لذلك، لا لأجل الخوف من الله تعالى، فلا جرم لم ينفعه ذلك الندم.

الثالث: الآية أصل في دفن الميت.

الرابع: قال ابن جرير: زعم أهل التوراة أن قابيل لما قتل أخاه هابيل، قال له الله: يا قابيل، أين أخوك هابيل؟ قال: ما أدري، ما كنت عليه رقيباً. فقال الله: إن صوت دم أخيك ليناديني من الأرض، الآن أنت ملعون من الأرض التي فتحت فاها فبلعت دم أخيك من يدك، فإذا أنت عملت في الأرض فإنها لا تعود تعطيك حرثها، حتى تكون فزعا تائها في الأرض. انتهى.

الخامس: روى ابن جرير بسنده عن عليّ بن أبي طالب قال: لما قتل ابن آدم أخاه بكى آدم فقال:
تغيّرَت البلادُ ومن عليها   فلونُ الأرض مغبرّ قبيحُ
تغيَّرَ كل ذي لونٍ وطعمٍ   وقلّ بشاشةُ الوجه المليحِ

السابقالتالي
2