الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱصْفَحْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ }

{ فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ } (الباء) سببّية و (ما) مزيدة لتأكيد الكلام وتمكينه في النفس. أي: بسبب نقضهم ميثاقهم. أونكرة، أي: بشيء عظيم صدر منهم من نقضهم ميثاقهم المؤكد، الموعود عليه النصر والمغفرة والأجر العظيم { لَعنَّاهُمْ } أي: أبعدناهم عن رحمتنا { وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً } بحيث لا تلين لرؤية الآيات والنذر، ولا تتعظ بموعظة، لغلظها وقساوتها لغضب الله عليهم. وبقيت تلك القساوة واللعنة في ذريتهم { يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ } أي: كلم الله في التوراة، بصرف ألفاظه أو معانيه { عَن مَّوَاضِعِهِ } التي أنزلت.

قال ابن كثير: أي: فسدت فُهومُهم، وساء تصرّفهم في آيات الله، وتأولوا كتابه على غير ما أنزله، وحملوه على غير مراده، وقالوا عليه ما لم يقل. عياذاً بالله من ذلك.

قال أبو السعود: والجملة استئناف لبيان مرتبة قساوة قلوبهم. فإنه لا مرتبة أعظم مما يصحح الاجتراء على تغيير كلام الله عز وجل، والافتراء عليه. وقيل: حال من مفعول (لعناهم).

{ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ } أي: تركوا نصيباً وافراً مما أُمروا به في التوراة، تَرْكَ الناسي للشيء لقلة مبالاته بحيث لم يكن لهم رجوع عليه. أو من أتّباع محمد صلى الله عليه وسلم { وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ } أي: خيانة. على أنها مصدر كـ (لاغيةٍ وكاذبةٍ). أو طائفة خائنة. يعني: أن الغدر والخيانة عادة مستمرة لهم ولأسلافهم، بحيث لا يكادون يتركونها أو يكتمونها. فلا تزال ترى ذلك منهم. قال مجاهد. وغيره بذلك تمالُؤَهم على الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم.

{ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ } وهم المؤمنون منهم { فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱصْفَحْ } أي لا تعاقبهم.

قال ابن كثير: هذا موجب النصر والظفر. كما قال عمر: ما عاملتَ مَنْ عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه. وبهذا، يحصل لهم تأليف وجمعٌ على الحقّ. ولعلّ الله يهديهم.

ولهذا قال تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ } يعني: به الصفح عمّن أساء، فإنه من باب الإحسان.

تنبيه

قال بعض المفسّرين: في هذا دلالة على جواز التحليف على الأمور المستقبلة. وأخذ الكفيل على الحق الذي يفعل في المستقبل. وفي قوله: { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ... } إلخ، دليلٌ على تأكيد الميثاق، وقبح نقضه، وأنه قد يسلب اللطف الْمُبعِد من المعاصي، ويورث النسيان. ولهذا قال تعالى: { وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ } وعن ابن مسعود: قد ينسى المرء بعض العلم بالمعصية. انتهى.