الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَإِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِيۤ أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ }

{ وَإِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ } اعلم أنا بينا أن الغرض من قوله تعالى للرسل:مَاذَآ أُجِبْتُمْ } [المائدة: 109] توبيخ مَن تمرد من أممهم. وأشد الأمم افتقاراً إلى التوبيخ والملامة النصارى، الذين يزعمون أنهم أتباع عيسى عليه السلام؛ لأن طعن سائر الأمم كان مقصوراً على الأنبياء. وطعن هؤلاء الملحدة تعدى إلى جلال الله وكبريائه، حيث وصفوه بما لا يليق أن يوصف مقامه به، وهو اتخاذ الزوجة والولد. فلا جرم، ذكر تعالى أنه يعدد أنواع نعمه على عيسى بحضرة الرسل واحدة فواحدة، إشعاراً بعبوديته. فإن كل واحدة من تلك النعم المعدودة عليه، تدل على أنه عبد وليس بإله، ثم أتبع ذلك باستفهامه لينطق بإقراره، عليه السلام، على رؤوس الأشهاد، بالعبودية، وأمره لهم بعبادة الله عز وجل. إكذابا لهم في افترائهم عليه، وتثبيتاً للحجة على قومه؛ فهذا سر سؤاله تعالى له، مع علمه بأنه لم يقل ذلك. وكل ذلك لتنبيه النصارى الذين كانوا في وقت نزول الآية ومَن تأثرهم، على قبح مقالتهم وركاكة مذهبهم واعتقادهم.

تنبيهات

الأول: روي عن قتادة: أن هذا القول يكون يوم القيامة لقوله تعالى:هَـٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ ٱلصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ } [المائدة: 119]. وقال السدّيّ: هذا الخطاب والجواب، في الدنيا. وصوّبه ابن جرير، قال: وكان ذلك حين رفعه إلى السماء. واحتج ابن جرير على ذلك بوجهين: (أحدهما): أن الكلام بلفظ المضيّ؛ و (الثاني): قوله:إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ } [المائدة: 118].

قال الحافظ ابن كثير: وهذان الدليلان فيهما نظر؛ لأن كثيراً من أمور يوم القيامة ذكر بلفظ المضيّ ليدل على الوقوع والثبوت. ومعنى قوله:إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ... } [المائدة: 118] الآية. التبرؤ منهم وردّ المشيئة فيهم إلى الله تعالى. وتعليقُ ذلك على الشرط لا يقتضي وقوعه. كما في نظائر ذلك من الآيات. فالذي قاله قتادة وغيره هو الأظْهَرُ. فالله أعلم أنّ ذلك كائن يوم القيامة، ليدلّ على تهديد النصارى وتقريعهم وتوبيخهم على رؤوس الأشهاد.

وقد روي بذلك حديث مرفوع، رواه الحافظ ابن عساكر في ترجمة أبي عبد الله مولى عمر بن عبد العزيز، وكان ثقة قال: سمعت أبا بردة يحدث عمر بن عبد العزيز عن أبيه، أبي موسى الأشعريّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " " إذا كان يوم القيامة دعي الأنبياء وأُمَمِهم. ثم يدعى بعيسى فيذكره الله نعمته عليه فيقرّ بها فيقول: { يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَالِدَتِكَ... } [المائدة: 110] الآية، ثم يقول: { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ } " فينكر أن يكون قال ذلك، فيؤتى بالنصارى فيُسْئَلون فيقولون: نعم هو أمرنا بذلك! قال: فيطول شَعْر عيسى عليه السلام. فيأخذ كل ملك من الملائكة بشعرة من شعر رأسه وجسده فيجاثيهم بين يدي الله عز وجل مقدار ألف عام حتى ترفع عليهم الحجة ويرفع لهم الصليب وينطلق بهم إلى النار ".


السابقالتالي
2