الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ إِذْ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ قَالَ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ }

{ إِذْ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ } ذكروه باسمه ونسبوه إلى أمه لئلا يتوهم أنهم اعتقدوا إلهيته أو ولديته، ليستقلّ بإنزال المائدة { هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } هذه قصة المائدة وإليها تنسب السورة فيقال: سورة المائدة. وهنا قراءتان: الأولى: " يَسْتَطيعُ رَبُّكَ " بالياء على أنه فعل وفاعل و: " أَنْ يُنَزِّلَ " المفعول. والثانية - بالتاء و " رَبَّكَ " نصب أي سؤال ربك. فحذف المضاف. والمعنى: هل تسأله ذلك من غير صارف يصرفك عنه؟ وهي قراءة عليّ وعائشة وابن عباس ومعاذ رضي الله عنهم. وسعيد بن جبير والكسائيّ، في آخرين.

قال أكثر المفسرين: الاستفهام على القراءة الأولى محمول على المجاز. إذ لا يسوغ لأحد أن يتوهم على الحواريين أنهم شكّوا في قدرة الله تعالى. لكنه كما يقول الرجل لصاحبه: هل تستطيع أن تقوم معي؟ مع علمه بأنه يقدر على القيام، مبالغة في التقاضي. وإنما قصد بقوله: " هَلْ تَسَطِيعُ " هل يسهل عليك، وهل يخف أن تقوم معي؟ فكذلك معنى الآية. لأن الحواريين كانوا مؤمنين عارفين بالله عز وجل، ومعترفين بكمال قدرته. وسؤالهم ليس لإزاحة شك، بل ليحصل لهم مزيد الطمأنينة. كما قال إبراهيم عليه السلام:وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } [البقرة: 260] ولا شك أن مشاهدة هذه الآية العظيمة تورث مزيد الطمأنينة في القلب. ولهذا السبب قالوا:وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا } [المائدة: 113] وحاصله أن { هَلْ يَسْتَطِيعُ } سؤال عن الفعل دون المقدرة عليه، تعبيراً عنه بلازمه. أو عن المسبب بسببه. وقيل المعنى: هل يطيع ربك؟ أي هل يستجيب دعوتك إذا دعوته؟ (فيستطيع) بمعنى: (يطيع) وهما بمعنى واحد. والسين زائدة. كاستجاب وأجاب واستجب وأجب و (يطيع) بمعنى (يجيب) مجازاً؛ لأن المجيب مطيع.

وذكر أبو شامة " أن النبيّ صلى الله عليه وسلم عاد أبا طالب في مرض. فقال له: يا ابن أخي، ادع ربك أن يعافيني. فقال: " اللهمّ! اشف عمي ". فقام كأنما نشط من عقال فقال: يا ابن أخي، إن ربك الذي تعبده ليطيعك. فقال: " يا عم، وأنت لو أطعته لكان يطيعك " أي يجيبك لمقصودك.

وحسنه في الحديث المشاكلة، فظهر أن العرب استعملته بهذا المعنى.

قال الخازن: وقال بعضهم: هو على ظاهره. وقال: غلط القوم وقالوا ذلك قبل استحكام الإيمان والمعرفة في قلوبهم. وكانوا بشراً، فقالوا هذه المقالة. فرد عليهم غلطهم بقوله: { قَالَ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ } يعني: اتقوا الله أن تشكّوا في قدرته.

والقول الأول أصح. انتهى.

وعليه فمعنى: { ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } من أمثال هذا السؤال، وأن توقفوا إيمانكم على رؤية المائدة إن كنتم به وبرسالتي { مُّؤْمِنِينَ } فإن الإيمان مما يوجب التقوى والاجتناب عن أمثال هذه الاقتراحات.

السابقالتالي
2