الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يَأْتُواْ بِٱلشَّهَادَةِ عَلَىٰ وَجْهِهَآ أَوْ يَخَافُوۤاْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَٱتَّقُوا ٱللَّهَ وَٱسْمَعُواْ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ }

ثم بيّن وجه الحكمة والمصلحة المتقدم تفصيله بقوله: { ذٰلِكَ } أي: الحكم المذكور { أَدْنَىٰ أَن يَأْتُواْ بِٱلشَّهَادَةِ عَلَىٰ وَجْهِهَآ } أي: أقرب إلى أن يؤدي الشهود - أو الأوصياء - الشهادة في نحو تلك الحادثة على حقيقتها من غير تغيير لها، خوفاً من العذاب الأخرويّ. فـ (الوجه) بمعنى: الذات والحقيقة.

قال أبو السعود: وهذه - كما ترى - حكمةُ شرعيةِ التحليف بالتغليظ المذكور.

وقوله تعالى: { أَوْ يَخَافُوۤاْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ } بيان لحكمة شرعيةِ ردّ اليمين على الورثة، معطوف على مقدرٍ ينبئ عنه المقام؛ كأنه قيل: ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها، ويخافوا عذاب الآخرة بسبب اليمين الكاذبة. أو يخافوا أن ترد اليمين على المدعين بعد أيمانهم، فيفتضحوا بظهور الخيانة واليمين الكاذبة، ويغرموا فيمتنعوا من ذلك. { وَٱتَّقُوا ٱللَّهَ } أي: في مخالفة أحكامه التي منها هذا الحكم، وهو ترك الخيانة والكذب { وَٱسْمَعُواْ } أي: ما تؤمرون به سماعَ قبولٍ { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ } أي: الخارجين عن طاعته ومتابعة شريعته، أي: إلى طريق الجنة أو إلى ما فيه نفعهم.

وقد استفيد من الآية أحكام

الأول: لزوم الوصية حال الخوف من الموت وحضور قرائنه. لأنه تعالى قال:حِينَ ٱلْوَصِيَّةِ } [المائدة: 106] أي: وقت أن تحق الوصية وتلزم.

الثاني: قال بعضهم: دلّ قوله تعالى:ٱثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ } [المائدة: 106] على أن الحكم شرطه أن يشهد فيه اثنان عدلان. وهذا إطلاق لم يفصل فيه بين حقّ الله وحق غيره، ولا بين الحدود وغيرها، إلا شهادة الزنى. فلقوله تعالى في النور:ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ } [النور: 4]. وهذا مجمع عليه. اهـ.

قال ابن القيّم في (أعْلام المُوَقِّعين): إنه سبحانه ذكر ما يحفظ به الحقوق من الشهود ولم يذكر أن الحكام لا يحكمون إلا بذلك. فليس في القرآن نفي الحكم بشاهد ويمين، ولا بالنكول، ولا باليمين المردودة، ولا بأيمان القسامة، ولا بأيمان اللعان وغير ذلك مما يبين الحق ويظهره ويدل عليه. والشارع - في جميع المواضع - يقصد ظهور الحقّ بما يمكن ظهوره به من البينات التي هي أدلة عليه وشواهد له. ولا يرد حقّاً قد ظهر بدليله أبداً. فيضيع حقوق الله وحقوق عباده ويعطلها. ولا يقف ظهور الحق على أمر معيّن لا فائدة في تخصيصه به مع مساواة غير في ظهور الحق أو رجحانه عليه ترجيحاً لا يمكن جحده ودفعه. وقد أطال في ذلك بما لا يستغني عن مراجعته.

الثالث: في قوله تعالى:آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } [المائدة: 106] دلالة على صحة شهادة الذميّ على المسلم عموماً. لكن خرج جوازها فيما عدا وصية المسلم في السفر بالإجماع.

قال بعض المفسّرين: ذهب الأكثر إلى أن شهادة الذميين قد نسخت.

السابقالتالي
2 3 4 5