الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ ٱلأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي ٱلصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ }

{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ } روى ابن أبي حاتم؛ أن رجلاً أتى عبد الله بن مسعود فقال: اعهد إليّ! فقال: إذا سمعت الله يقول: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } فأرعها سمعك. فإنه خير يأمر به، أو شر ينهي عنه.

و (الوفاء) ضد الغدر، كما في القاموس، وقال غيرة: هو ملازمة طريق المواساة ومحافظة عهود الخلطاء. يقال: وفى بالعهد وأوفى به.

قال ناصر الدين في (الانتصاف): وورد في الكتاب العزيز (وفّى) بالتضعيف في قوله تعالى:وَإِبْرَاهِيمَ ٱلَّذِي وَفَّىٰ } [االنجم: 37]، ورد " أوفى " كثيراً، ومنه: { أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ }. وأما " وَفَى " ثلاثيا، فلم يرد إلا في قوله تعالى:وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ ٱللَّهِ } [التوبة: 111]. لأنه بنى أفعل تفضيل من " وفى " إذ لا يبني إلا من ثلاثيّ.

والعقود: جمع عقد وهو العهد الموثق، شبه بعقد الحبل ونحوه، وهي عقود الله التي عقدها على عباده وألزمها إياهم من مواجب التكليف. قال عليّ بن طلحة: قال ابن عباس: يعني بالعهود ما أحلّ الله وما حرم، وما فرض، وما حدّ في القرآن كلّه، ولا تغدروا ولا تنكثوا. وقال زيد بن أسلم: العقود ستة: عهد الله، وعقد الحلف، وعقد الشركة، وعقد البيع، وعقد النكاح، وعقد اليمين. قال الزمخشريّ: والظاهر أن عقود الله عليهم في دينه، من تحليل حلاله وتحريم حرامه. وأنه كلام قديم مجملاً، ثم عقب بالتفصيل، وهو قوله: { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ ٱلأَنْعَامِ } البهيمة ما لا عقل له مطلقاً، من ذوات الأرواح أو ذوات الأربع.

قال الراغب: خص في المتعارف بما عدا السباع والطير. وإضافتها للأنعام للبيان، كثوب الخز. وإفرادها لإرادة الجنس، أي: أحلّ لكم أكل البهيمة من الأنعام. جمع " نَعَم " محرّكة وقد تسكن عينه. وهي الإبل والبقر والشاء والمعز. { إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ } يعني: رخصت لكم الأنعام كلها، إلا ما حرم عليكم في هذه السورة، وهي الميتة والدم ولحم الخنزير وغير ذلك. وذلك أنهم كانوا يحرمون السائبة والبَحيرة، فأخبر الله تعالى أنهما حلالان، إلا ما بيّن في هذه السورة، ثم قال: { غَيْرَ مُحِلِّي ٱلصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } يعني: أحلت لكم هذه الأشياء من غير أن تستحلوا الصيد وأنتم محرمون. فـ (غير) نصب على الحالية من ضمير (لكم). قال في (العناية): ولا يرد ما قيل: إنه يلزم تقيد إحلال بهيمة الأنعام بحال انتفاء حل الصيد وهم حرم، وهي قد أحلت لهم مطلقاً. ولا يظهر له فائدة، إلا إذا عنى بالبهيمة الظباء وحمر الوحش وبقره، لأنه - مع عدم اطراد اعتبار المفهوم - يعلم منه غيره بالطريق الأولى. لأنها إذا أُحلت في عدم الإحلال لغيرها، وهم محرمون لدفع الحرج عنهم، فكيف في غير هذا الحال؟ فيكون بياناً لإنعام الله عليهم بما رخص لهم من ذلك، وبياناً لأنهم في غنيةٍ عن الصيد وانتهاك حرمة الحرم.

السابقالتالي
2