الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَىٰ ٱلأُخْرَىٰ فَقَاتِلُواْ ٱلَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيۤءَ إِلَىٰ أَمْرِ ٱللَّهِ فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِٱلْعَدْلِ وَأَقْسِطُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ }

{ وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ } أي: تقاتلوا { فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا } قال ابن جرير: أي: بالدعاء إلى حكم كتاب الله، والرضا بما فيه، لهما وعليهما، وذلك هو الإصلاح بينهما بالعدل.

{ فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَىٰ ٱلأُخْرَىٰ } أي: فإن أبت إحدى هاتين الطائفتين الإجابة إلى حكم كتاب الله، له وعليه، وتعدت ما جعل الله عدلاً بين خلقه، وأجابت الأخرى منهما { فَقَاتِلُواْ ٱلَّتِي تَبْغِي } أي: تعتدي وتأبى الإجابة إلى حكم الله { حَتَّىٰ تَفِيۤءَ إِلَىٰ أَمْرِ ٱللَّهِ } أي: ترجع إلى حكم الله الذي حكم في كتابه بين خلقه { فَإِن فَآءَتْ } أي: رجعت الباغية، بعد قتالكم إياهم، إلى الرضا بحكم الله في كتابه { فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِٱلْعَدْلِ } أي: بالإنصاف بينهما، وذلك حكم الله في كتابه الذي جعله عدلاً بين خلقه { وَأَقْسِطُوۤاْ } أي: اعدلوا في كل ما تأتون وتذرون. { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ } أي: فيجازيهم أحسن الجزاء.

تنبيهات

الأول: قال القاشانيّ: الاقتتال لا يكون إلا للميل إلى الدنيا، والركون إلى الهوى، والانجذاب إلى الجهة السفلية، والتوجه إلى المطالب الجزئية. والإصلاح إنما يكون من لزوم العدالة في النفس التي هي ظل المحبة، التي هي ظل الوحدة، فلذلك أمر المؤمنين الموحدين بالإصلاح بينهما، على تقدير بغيهما. والقتال مع الباغية على تقدير بغي إحداهما، حتى ترجع. لكون الباغية مضادة للحق، دافعة له.

وقد روي أن هذه الآية نزلت في طائفتين من الأوس والخزرج اقتتلتا في بعض ما تنازعتا فيه بالنعال والأيدي، لا بالسيوف، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاهم فحجز بينهم وأصلح. روي ذلك من طريق عديدة، مما يقوي أن القتال الذي نزلت فيه كان حقيقياً.

ويروى عن الحسن أن الاقتتال بمعنى الخصومة، والقتال بمعنى الدفع مجازاً. قال: فيما رواه الطبريّ عنه: كانت تكون الخصومة بين الحيين، فيدعوهم إلى الحكم، فيأبون أن يجيبوا، فأنزل الله: { وَإِن طَآئِفَتَانِ } إلى قوله: { فَقَاتِلُواْ ٱلَّتِي تَبْغِي... } الآية. يقول: ادفعوا إلى الحكم، فكان قتالهم الدفع. انتهى.

ولا يخفى أن المادة قد تحمل على حقيقتها ومجازها فتتسع لهما. وقد قال اللغويون: ليس كل قتال قتلاً. وقد يفضي الخصام إلى القتل، فلا مانع أن يراد من الآية ما هو أعم، لتكون الفائدة أشمل - والله أعلم.

الثاني: في (الإكليل): في الآية وجوب الصلح بين أهل العدل والبغي، وقتال البغاة وهو شامل لأهل مكة كغيرهم، وأن من رجع منهم وأدبر لا يقاتل، لقوله: { حَتَّىٰ تَفِيۤءَ }. انتهى.

وقد روى سعيد عن مروان قال: صرخ صارخ لعليّ يوم الجمل: لا يقتل مدبر ولا يذفف على جريح، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن.

وقد اتفق الفقهاء على حرمة قتل مدبرهم وجريحهم، وأنه لا يغنم لهم مال، ولا تسبى لهم ذرية؛ لأنهم لم يكفروا ببغيهم ولا قتالهم.

السابقالتالي
2