الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَرْفَعُوۤاْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ ٱلنَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِٱلْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ }

{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَرْفَعُوۤاْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ ٱلنَّبِيِّ } أي: إذا نطق ونطقتهم، فلتكن أصواتكم قاصرة عن الحدّ الذي يبلغه صوته، ليكون عالياً لكلامكم، لا أن تغمروا صوته بلغطكم، وتبلغوا أصواتكم إلى أسماع الحاضرين قبل صوته، فإن ذلك من سوء الأدب بمكان كبير { وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِٱلْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ } أي: بل تعمدوا في مخاطبته القول اللين، القريب من الهمس، الذي يضادّ الجهر، كما تكون مخاطبة المهيب المعظم. وروي عن مجاهد تفسيره بندائه باسمه، أي: لا تنادوه كما ينادي بعضكم بعضاً: يا محمد، يا محمد، بل يا نبي الله، يا رسول الله، ونظر فيه شراح (الكشاف) بأن ذكر الجهر حينئذ لا يظهر له وجه، إذ الظاهر أن يقال: لا تجعلوا خطابه كخطاب بعضكم لبعض، كما مر في قوله:لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ ٱلرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً } [النور: 63]. انتهى.

ولك أن تقول: إنما أفرغ هذا المعنى المروي عن مجاهد في قالب ذاك اللفظ الكريم جرياً على سنة التنزيل في إيثار أرق الألفاظ والجمل، وألطفها في ذلك، فإن أسلوبه فوق كل أسلوب. وقد قالوا: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به { أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ } أي: مخافة أن تحبط أعمالكم، برفع صوتكم فوق صوته، وجهركم له بالقول كجهركم لبعضكم { وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } أي: لا تعلمون، ولا تدرون بحبوطها.

تنبيه

استدلت المعتزلة بالآية على أن الكبائر محبطة للأعمال؛ لأن المذكور في الآية كبيرة محبطة ولا فرق بينها وبين غيرها. ولما كان عند أهل السنة، المحبط للأعمال هو الكفر خاصة، تأولوا الآية بأنها للتغليظ والتخويف، إذ جعلت بمنزلة الكفر المحبط، أو هي للتعريض بالمنافقين المقاصدين بالجهر والرفع الاستهانة، فإن فعلهم محبط قطعاً.

وقال الناصر: المراد في الآية النهي عن رفع الصوت على الإطلاق. ومعلوم أن حكم النهي الحذر مما يتوقع في ذلك من إيذاء النبيّ عليه الصلاة والسلام. والقاعدة المختارة: أن إيذاءه عليه الصلاة والسلام يبلغ مبلغ الكفر المحبط للعمل باتفاق. فورد النهي عما هو مظنة لأذى النبيّ عليه الصلاة والسلام، سواء وجد هذا المعنى أوْ لا، حماية للذريعة، وحسماً للمادة. ثم لما كان هذا المنهيّ عنه - وهو رفع الصوت - منقسماً إلى ما يبلغ ذلك المبلغ أو لا، ولا دليل يميز أحد القسمين عن الآخر، لزم المكلف أن يكف عن ذلك مطلقاً، وخوّف أن يقع فيما هو محبط للعمل، وهو البالغ حد الإيذاء، إذ لا دليل ظاهر يميزه. وإن كان، فلا يتفق تمييزه في كثير من الأحيان، وإلى التباس أحد القسمين بالآخر وقعت الإشارة بقوله: { أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ }. وإلا فلو كان الأمر على ما تعتقده المعتزلة، لم يكن لقوله: { وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } موقع؛ إذ الأمر بين أن يكون رفع الصوت مؤذياً، فيكون كفراً محبطاً قطعاً، وبين أن يكون غير مؤذ، فيكون كبيرة محبطة على رأيهم قطعاً.

السابقالتالي
2