الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ }

{ إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ } أي: لم يقع في نفوسهم شك فيما آمنوا به من وحدانية الله ونبوّة نبيه، وألزموا نفوسهم طاعة الله، وطاعة رسوله، والعمل بما وجب عليهم من فرائض الله بغير شك في وجوب ذلك عليهم { وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } أي: جاهدوا المشركين بإنفاق أموالهم، وبذل مهجهم في جهادهم، على ما أمرهم الله به من جهادهم، وذلك سبيله، لتكون كلمة الله العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى - قال ابن جرير: وقدَّمنا مراراً أن قصر (سبيل الله) على غزو الكفار المعتدين، من باب قصر العام على أهم أفراده وأعلاها، وإلا فسبيل الله يعم العبادات والطاعات كلها، لأنها في سبيل وجهته.

قال الشهاب: وقدم الأموال، لحرص الإنسان عليها، فإن ماله شقيق روحه. و { جَاهَدُواْ } بمعنى: بذلوا الجهد. أو مفعوله مقدر، أي: العدوّ، أو النفس والهوى.

{ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ } أي: الذين صدقوا في ادّعاء الإيمان، لظهور أثر الصدق على جوارحهم، وتصديق أفعالهم وأقوالهم. وفيه تعريض يكذب أولئك الأعراب في ادعائهم الإيمان وإفادة للحصر. أي: هم الصادقون، لا هؤلاء، أو إيمانهم إيمان صدق وجد.

تنبيهات

الأول: قال في (الإكليل): في الآية دليل على أن الأعمال من الإيمان. وقدمنا أن هذا ما لا خلاف فيه بين السلف، وليراجع في ذلك ما بسطه ابن حازم رحمه الله في (الفِصَل).

الثاني: قال القاشانيّ: في قوله تعالى: { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ... } الآية إشارة إلى الإيمان المعتبر الحقيقيّ، وهو اليقين الثابت في القلب المستقر الذي لا ارتياب معه، لا الذي يكون على سبيل الخطرات، فالمؤمنون هم الموقنون الذين غلبت ملكة اليقين قلوبهم على نفوسهم، ونورتها بأنوارها، فتأصلت فيها ملكة القلوب حتى تأثرت بها الجوارح، فلم يمكنها إلا الجري بحكمها، والتسخر لهيأتها، وذلك معنى قوله: { وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } بعد نفي الارتياب عنهم، لأن بذل المال والنفس في طريق الحق هو مقتضى اليقين الراسخ، وأثره في الظاهر. انتهى.

الثالث: قال في (الكشاف): فإن قلت: ما معنى (ثم) ههنا، وهي للتراخي. وعدمُ الارتياب يجب أن يكون مقارناً للإيمان، لأنه وصف فيه، لما بينت من إفادة الإيمان معنى الثقة، والطمأنينة التي حقيقتها التيقن وانتقاء الريب؟ قلت: الجواب على طريقتين:

أحدهما: أن من وجد منه الإيمان ربما اعترضه الشيطان، أو بعض المضلين، بعد ثلج الصدر، فشككه وقذف في قلبه ما يثلم يقينه. أو نظر هو نظراً غير سديد يسقط به على الشك، ثم يستمر على ذلك، راكباً رأسه، لا يطلب له مخرجاً. فوصف المؤمنون حقاً بالبعد عن هذه الموبقات. ونظيره قوله:ثُمَّ ٱسْتَقَامُواْ } [فصلت: 30].

والثاني: أن الإيقان وزوال الريب، لما كان ملاك الإيمان، أفرد بالذكر بعد تقدم الإيمان، تنبيهاً على مكانه. وعطف على الإيمان بكلمة التراخي، إشعاراً باستقراره في الأزمنة المتراخية المتطاولة غضاً جديداً. انتهى.

يعني: أنه إما لنفي الشك عنهم فيما بعد، فدل على أنهم كما لم يرتابوا أولاً لم تحدث لهم ريبة، فالتراخيّ زمانيّ لا رتبيّ على ما مرّ في قوله: { ثُمَّ ٱسْتَقَامُواْ } [فصلت: 30]. أو عطفه عليه عطف جبريل على الملائكة، تنبيهاً على أصالته في الإيمان، حتى كأنه شيء آخر. فثم دلالة على استمراره قديماً وحديثاً.